حين تغزو التجارة بالدين واللوبيات مستقبل الوطن: موريتانيا في مهبّ التحايل المقدّس

في المجتمعات التي يعشش فيها الجهل وتُهمّش فيها المعرفة، تنتشر ظواهر تشكّل خطراً وجودياً على الدولة والمجتمع. وموريتانيا، للأسف، ليست استثناءً من هذا المصير المقلق. فقد تغلغلت في نسيجها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي طفيليات تتغذى على قداسة مزيّفة، وعلى حظوة مشبوهة، وعلى غفلة شعب مُنهك، وأجهزة دولة مخترقة، ومؤسسات تفككت بنيتها من الداخل.
التجارة بالدين: بوابة الهيمنة على الوعي
من أخطر الظواهر التي غزت بلدنا “التجارة بالدين”. لم تعد هذه الممارسة خافية على أحد، فهي بضاعة رائجة في الأسواق التي يغلق فيها العقل وتفتح فيها الأبواب على مصراعيها للخرافة والاستغلال. يكفي أن تلبس الباطل عباءة شرعية مزعومة حتى تجد لك أتباعًا من الجهلة الذين لا يميزون بين العالم والدجال، ولا بين من يسعى للهداية ومن يتربح باسمها.
لقد فطن “تجار الدين” عندنا لهذه الثغرة منذ أمد بعيد، فأسّسوا شبكات النفوذ واستثمروا في الجهل واستمرار التخلّف. وسرعان ما اكتسبوا قداسة في أعين ضعاف التكوين العقلي والثقافي، لتُصبح كلمتهم فوق الدستور وأقوى من القانون، فلا هم علماء حق، ولا هم دعاة عدل، بل مجرد سماسرة يبيعون الجنة لمن يدفع أكثر.
حين تجتمع القداسة والحظ: الخطر الأعظم
الأخطر أن بعض الأسر التي ورثت المتاجرة بالدين جيلاً بعد جيل، جمعت إلى ذلك الحظ المادي والسياسي. هنا يصبح الخطر مركبًا: شخص يُقدّس من طرف العوام، ويملك ثروة طائلة، ويجد دعماً من لوبيات نافذة داخل النظام. إن اجتماع الحظ والقداسة على شخص أو جهة في ظل هشاشة الوعي، يعني احتكاراً فعلياً لمستقبل البلد، ونسفاً لأي أمل في قيام دولة العدالة والكفاءة.
تواطؤ اللوبي الفرانكفوني وتخريب التعليم
هؤلاء لا يعملون وحدهم. فاللوبي الفرانكفوني، الذي يسعى جاهداً لتحنيط موريتانيا في تبعيتها الثقافية والسياسية، وجد في تجهيل الشعب طريقاً سالكاً لتعميق نفوذه. فتم تمييع التعليم إلى الحد الذي أصبح فيه الخريجون أقل تأهيلاً من غير المتعلمين. وتم توسيع الخريطة المدرسية لا من أجل رفع جودة التعليم، بل لإيجاد مبرر لزج عناصر ركيكة، غير محفّزة، في سلك التدريس.
الأسوأ أن المفتشين التربويين، وهم المفترض أن يكونوا حماة الجودة، أُفرغوا من أدواتهم، حتى أصبح مفتش المقاطعة يتقاضى أقل من مدير مدرسة! فكيف ننتظر إصلاحاً أو رقابة؟!
اختراق الدولة وفساد المحيط
في هذا المناخ المتعفن، لا غرو أن يُصبح النظام نفسه مخترقاً. فرغم ما يعرف عن رئيس البلاد من طيبة شخصية ورغبة في الخير، إلا أن بطانة تحيط به وتُحجب عنه الحقيقة. وما يُروى في الشارع من أمثلة تقطع الأنفاس:
مطلوب لدى الإنتربول تزوج من ابنة الرئيس، فتم منحه أوراقاً جديدة تُخفي هويته.
صهر آخر صدر بحقه حكم بالإدانة في عملية احتيال على سعودي، لكن عُيّن سفيرًا ونال حصانة دبلوماسية!
وذُكر أن ابن أخ الرئيس استحوذ على مناطق تنقيب عن الذهب، وأُلزِم المنقّبون ببيع ذهبهم له بسعر أقل من السوق، مع منعهم من التسويق الحر، ومصادرة بضاعتهم من طرف الجمارك إن حاولوا المخالفة.
دولة في مهب الريح: عودة الميليشيات؟
كل هذه الظواهر تكشف أن مفهوم الدولة في خطر. فهي تُفكك من الداخل بأيدي لوبيات لا تؤمن لا بالوطن ولا بالقانون. وما الحديث المتداول عن وصول شحنة ألف بزة عسكرية قادمة من السنغال إلا مؤشر خطير على ما قد يُخطط للبلد من فوضى وميليشيات. والمفارقة أن الجيش الموريتاني يملك مصنعا للثياب العسكرية، فلماذا تُستورد هذه الكميات من الخارج؟!
الختام: معركة الوعي
إن إنقاذ موريتانيا لا يمر عبر الأشخاص، مهما حسنت نيتهم، بل عبر بناء مؤسسات قوية ومستقلة، ونشر الوعي الشعبي، واستعادة دور التعليم كرافعة مركزية للنهضة. كما يجب على المجتمع أن يتصدى لتجار الدين، ويكفّ عن منح القداسة المجانية لمن يتاجرون بالآخرة ليأكلوا بها أرزاق الناس في الدنيا.
البلد ما زال قابلاً للإنقاذ، لكن الوقت يضيق، والمهمة ثقيلة… ومن لا ينتصر للوعي، سيُهزم بالخديعة.
حمادي سيدي محمد آباتي