حفنة تراب رقمية: من صراع الأرض إلى مقاومة الإقطاع التكنولوجي

في مشهدٍ خالد من ذاكرة السينما العربية، يمدّ محمد أبو سويلم—ذلك الفلاح المصري البسيط الذي جسّده ببراعة الراحل محمود المليجي—يده المرتجفة نحو حفنة من تراب أرضه، رافضًا أن يتركها حتى وهي تُنتزع منه قسرًا. لم تكن الأرض مجرد مصدر رزق، بل كانت انتماءً وكرامة، وهوية لا تقبل التنازل.
هذا المشهد من فيلم “الأرض” للمخرج يوسف شاهين لم يكن مجرد دراما إنسانية، بل تشريح فني عميق لصراع وجودي يتجدد في كل عصر. واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يتجدد الصراع ذاته ولكن على ساحة جديدة… ساحة غير مرئية، لا تُروى بالماء، ولا تُحرث بالأيادي، بل تُنتزع بالبيانات والخوارزميات.
الأرض الجديدة: من الحقول إلى المنصات
لم تعد الأرض ترابًا تحت الأقدام، بل أصبحت فضاءً رقميًا نعيش فيه ونعمل من خلاله، ونُعرّف به أنفسنا. اليد التي تنتزعها لم تعد يد سلطة أو إقطاعي تقليدي، بل خوارزميات متقنة تُديرها شركات عملاقة تعرف عنا أكثر مما نعرفه عن أنفسنا.
في هذا الفضاء الجديد، أنت لم تعد مالكًا لأرضك، بل مستهلكًا تُحصد بياناته. لم يعد الإقطاعي فارسًا على صهوة جواد، بل مُبرمجًا يجلس على خوادم سحابية، يحصدك وأنت تبتسم.
حين كان الإنترنت حلمًا
في بداياته، وُلد الإنترنت بوعد التحرر. كانت رسالته الأولى في عام 1969 مكونة من حرفين فقط (“lo” من كلمة login)، لكنها كانت كافية لتُطلق ثورة هادئة. لاحقًا، أنشأ تيم بيرنرز لي الشبكة العنكبوتية العالمية بروح تشاركية، لا يسعى للربح بل لبناء فضاء مفتوح لتبادل المعرفة.
في ذلك الزمن، وُلدت البرمجيات الحرة، وانتشرت ويكيبيديا، وازدهر حلم الإنترنت كأرض بلا أسوار ولا ضرائب، مفتوحة للجميع.
بناء السور… وخداع المجانية
لكن لم يكن الحلم محصّنًا. شيئًا فشيئًا، بدأ يُسوّر. جاءت تطبيقات سهلة، وخدمات مجانية، وسرعان ما تحولت هذه البوابة المفتوحة إلى بوابات محصّنة، تسيطر عليها شركات تكنولوجية عملاقة.
مع دخول الألفية، وُلدت فيسبوك ويوتيوب وتويتر، واستُخدمت الهواتف الذكية لإدخال الإنترنت إلى جيب المستخدم، ليُصبح هو نفسه مصدر البيانات. لم تكن الثورة تقنية فقط، بل تحوّلت إلى بنية اقتصادية تحتكر الفضاء الرقمي وتحوله إلى أرض خاصة لا يدخلها إلا من يرضى بالشروط.
الإقطاع الرقمي: من الحراثة إلى الحصاد الخفي
اليوم، لم يعد المستخدم يتحكم في أدواته أو خياراته، بل يعيش داخل منظومة مغلقة تُدار بخوارزميات لا يُمكن رؤيتها ولا محاسبتها.
الاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران يُطلق على هذا التحوّل اسم “الإقطاع التكنولوجي”، وهو يرى أن الشركات الرقمية الكبرى لم تعد تُنتج كما تفعل الرأسمالية الصناعية، بل تبني أسوارًا رقمية، وتفرض ريوعًا على من يعيش داخلها.
في هذا النظام:
- تُفرض تبعية رقمية على المستخدمين، كما كان الفلاحون قديمًا ملزمين بأرض الإقطاعي.
- تُنتزع البيانات الشخصية لتُباع وتُستخدم دون علم أصحابها.
- تتحكم الشركات في سلوك الأفراد ومعتقداتهم وتوجهاتهم من خلال خوارزميات غير شفافة.
- تتحول الخدمات الرقمية من أدوات إنتاج إلى أدوات احتكار مدرّة للأرباح.
من الإنتاج إلى الريع.. اقتصاد “الإيجار”
يُكمل المفكر اليوناني يانيس فاروفاكيس هذا التصوّر، ويقول إن ما نشهده اليوم هو تحوّل من اقتصاد السوق إلى اقتصاد “الإيجار”. الشركات لم تعد تبتكر لتبيع، بل تحتكر لتؤجّر. المستخدم لا يملك أدواته، بل يستعيرها، في فضاء تحدده الشروط التي لا يقرأها أحد.
وهكذا، نجد أنفسنا في إقطاعيات سحابية، تُحدّد لنا ما نرى، ومن نتابع، وماذا نشتري، ومتى نتحدث، بل وحتى متى نصمت.
بدايات المقاومة: من بروكسل إلى البرمجيات الحرة
لكن هذا الواقع ليس قدرًا. فقد بدأت محاولات مقاومة هذا النظام، أبرزها من الاتحاد الأوروبي عبر تشريعات مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، التي تسعى لإعادة السيطرة إلى المستخدم. وهناك دعوات لفصل الشركات العملاقة، وإحياء الإنترنت المفتوح من خلال أنظمة لامركزية ومبادرات مفتوحة المصدر تحترم الخصوصية والشفافية.
إلا أن هذه الجهود، رغم أهميتها، لن تثمر إلا إذا ترافقت مع إرادة سياسية، وضغط مجتمعي، ووعي فردي. فالمعركة لم تعد على منتج نشتريه، بل على الأرض التي نعيش عليها… الأرض الرقمية.
حفنة التراب التي لا تُرى
في نهاية فيلم “الأرض”، يتمسّك أبو سويلم بتراب أرضه وهو يُسحب بعيدًا. لا يملك سلاحًا، بل يملك إصرارًا. واليوم، ونحن نُسحب من أرضنا الرقمية—من بياناتنا، من وعينا، من قراراتنا—يبقى السؤال قائمًا: هل نملك الإصرار ذاته؟
الأرض اليوم لم تعد حفنة تراب، بل سطر شيفرة، أو بندًا في سياسة خصوصية لا يقرأها أحد. لكنها تظل أرضًا… ومن لا يعرفها، قد لا ينتبه لحظة انتزاعها.