توريث الدولة: حين تتحول الوظائف إلى إرث عائلي مغلق

لا تكاد تتغير الوجوه في الجهاز التنفيذي، ولا في سلك القضاء أو قبة البرلمان، إلا لتُستبدل بأخرى من ذات الخلفية الاجتماعية: أبناء وزراء سابقين، أو أقارب ضباط كبار، أو ورثة رجال أعمال نافذين. كأن الدولة تُدار بمنطق العائلة، لا بمنطق الكفاءة، ويكاد الوصول إلى الوظيفة العمومية يتحول إلى امتياز خاص لا يُنال بالجدّ والاجتهاد، بل بالانتماء إلى دائرة النفوذ.
هذه الظاهرة باتت تُطرح بقوة في الساحة الوطنية، كأحد أبرز أسباب تفشي الفساد وسوء الحكامة، وإقصاء الكفاءات التي شقت طريقها بالكدّ والمثابرة. أبناء الطبقات المسحوقة، الذين أنفقت عليهم أسرهم فوق طاقتهم ليصلوا إلى أعلى درجات التأهيل، يجدون أنفسهم خارج دائرة القرار، رغم تميزهم، لأنهم ببساطة لا ينتمون إلى “الطبقة المتوارثة للسلطة”.
من الكفاءة إلى القرابة: انقلاب في مبدأ التوظيف
تقوم الدولة الحديثة على تكافؤ الفرص، لكن ما يجري على أرض الواقع في بلادنا يُظهر أن المناصب تُمنح بالقرابة والانتماء الاجتماعي، لا بالكفاءة والمعرفة. وهذا لا يؤدي فقط إلى تردي الأداء الإداري، بل يضرب الثقة العامة في الدولة، ويغذي الشعور بالغبن والتهميش، خاصة لدى الشباب.
فالخريج المتفوق الذي حُرم من التعيين، لأنه لا يملك “ظهرًا”، يخرج من تجربة التهميش بإحساسٍ عميق باللاجدوى. هذا الإحساس هو ما يصنع الهجرة القسرية، ويغذي الاحتقان، وربما يُمهّد لثورة اجتماعية قادمة.
أنظمة تتجدد رؤوسها وتحتفظ بذات بنيتها
صحيح أن الرؤساء يتغيرون، وأن الشعارات تتبدل، لكن البنية العميقة للنظام لا تمس.
فالدولة ما تزال تدور في فلك الولاءات العائلية والجهوية، ويكاد المشهد يُعيد إنتاج نفسه عند كل استحقاق سياسي أو تغييرات إدارية.
وما دام الوصول إلى المناصب العليا يخضع لمعادلات غير شفافة، فلن تنتج عن هذه التغييرات سوى نسخ محسّنة من ذات الفشل.
نحو تفكيك الحلقة المغلقة
الخروج من هذه الحلقة لا يمكن أن يتم دون:
إصلاح جذري لمنظومة التوظيف: عبر تنظيم مسابقات وطنية شفافة، ونشر معايير التعيين للمناصب العليا، وإخضاع كل تعيين للرقابة والمساءلة.
تشريعات تمنع تضارب المصالح: من خلال سن قوانين صارمة ضد التوظيف بالمحسوبية، والتعيينات التي تقوم على القرابة والنفوذ.
ردّ الاعتبار للكفاءة: بتخصيص مسارات وظيفية تنافسية لأصحاب المؤهلات، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية.
توازن التمثيل الوطني: لضمان مشاركة كافة شرائح المجتمع في إدارة الشأن العام، وعدم حصر القرار في يد فئة محددة.
ختامًا
إن الدولة التي لا تُتيح لأبنائها التنافس العادل، وتحصر الفرص في أيدي فئة بعينها، إنما تسير في طريق محفوف بالمخاطر. لأن الظلم لا يُنتج استقرارًا، والاحتكار لا يُصنع منه وطن، بل يُصنع منه احتقان ينتظر لحظة انفجار. ولعل الإنذار قد بدأ.
حمادي سيدي محمد آباتي