تفشي الغش والفساد في السلع والخدمات.. تهديد شامل للصحة والأمن الوطني

الحسين محنض/بتصرف
تعيش البلاد مرحلة حرجة من تاريخها الحديث، يتجلى فيها تدهور مقلق في جودة المنتجات الغذائية، والأدوية، ومواد البناء، والخدمات الأساسية. وقد بات هذا الانهيار الشامل في المعايير نتيجة مباشرة لثقافة الغش والاحتيال، التي لم تقتصر على فئة أو قطاع بعينه، بل تغلغلت في مختلف مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأضحت تهدد أمن المواطن وصحته، بل وكيان الدولة ذاته.
لقد أصبح من المألوف أن تُعرض لحوم الجيف، أو لحوم الكلاب والقطط والحمير، على أنها لحوم صالحة للاستهلاك الآدمي، في تجاوز صارخ لكل الأعراف الصحية والأخلاقية. كما يتم تسويق الدجاج المحلي المسمّن بمواد كيميائية خطيرة على أنه منتَج وطني طبيعي، في حين يُعرض اللبن المنتج من مواشٍ تُغذّى بالمحفزات الدوائية الضارة على أنه لبن صحي.
وتمتد مظاهر الغش إلى المنتجات الزراعية، حيث تُروى الخضروات بمياه ملوثة أو تُرش بمواد سامة لاستخدامات غير زراعية، بل وتُسوّق الخضروات المعدلة وراثياً دون رقابة أو تصنيف. أما الخبز، فغالباً ما يُنتج من دقيق منتهي الصلاحية، أو مخصص أصلاً لعلف المواشي، في اعتداء مباشر على صحة المواطن.
أما على صعيد الصناعات الغذائية، فإن إعادة تدوير الألبان الفاسدة وتحويلها إلى “ياوورتات” معبأة ومغلفة بشكل احترافي لم يعد استثناءً. ولا تقل خطورةً عن ذلك استيراد الأغذية المنتهية الصلاحية، التي تُغير تواريخ صلاحيتها وعبواتها لتبدو جديدة، فضلاً عن استيراد زيوت صناعية مخصصة للأخشاب والجلود، تُباع على أنها زيوت نباتية، بالإضافة إلى تسويق مياه كيميائية على أنها مواد معقمة.
ويمتد الخلل إلى قطاع الأدوية، حيث تُستورد أدوية من مصادر مشبوهة، وتُغلف في علب تحمل علامات دول أوروبية كبرى لتوهم المستهلك بجودتها. كما تغزو الأسواق كريمات مبيضة مسرطنة ومعاجين أسنان ملوثة، دون أي تدخل رقابي فعال.
في ذات السياق، بات الغش يطال حتى البنية التحتية: أسلاك كهربائية رديئة، أنابيب مياه مسرطنة، إسمنت وحديد بناء لا يصلحان للاستخدام، وقطع غيار مقلدة، وصولاً إلى قنينات المياه المعدنية. حتى المنتجات الأقل تكلفة مثل “زازو” لم تسلم من الغش، في ظاهرة تعكس غياب أدنى درجات الضمير المهني والرقابة.
وفي خضم هذا الواقع المتردي، برز خطر جديد لا يقل فتكا: تفشي الحبوب المهلوسة والمخدرات، التي أصبحت تُسهم في تدمير عقول الشباب وتفكيك بنية المجتمع، عبر تفشي الجريمة، وانتشار السلاح، وتصاعد الهجرة غير الشرعية، بما ينذر بعواقب وخيمة قد تشمل اضطرابات أمنية واجتماعية لا تُحمد عقباها.
إن هذا الانهيار المتسارع لم يكن وليد الصدفة، بل كان نتيجة مباشرة لتكريس ثقافة الرشوة، والفساد، والوساطة، والمحسوبية، ما جعل القانون بلا هيبة، والمؤسسات بلا فاعلية، وأدى إلى تجذر منظومة فساد شاملة لا تترك فرصة لأي إصلاح جزئي.
ولمواجهة هذا الواقع، لا بد من اتخاذ إجراءات جذرية وعاجلة، أبرزها:
- إطلاق حملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد والرشوة، تشمل تجريم كل من يعطي أو يتلقى رشوة، أو يخالف القانون، أو يتدخل بوساطة، مع إقرار عقوبات رادعة ومعلنة.
- إنشاء هيئة مستقلة للمواصفات والمقاييس، تُعنى برقابة جودة الأغذية، الأدوية، مواد البناء، والمعدات المنزلية، وتتمتع بصلاحيات تنفيذية لمنع دخول أو تداول أي منتج لا يطابق المعايير الوطنية والدولية.
- فرض سيادة القانون وهيبة الدولة عبر تطبيق صارم للأنظمة، ومنع التسيّب، وتزوير الشهادات والأختام، والاحتلال غير الشرعي للأملاك العامة، بما يرسخ ثقافة الانضباط واحترام القانون.
إن بقاء الدولة، وسلامة المجتمع، واستقرار المستقبل، كلها مرهونة بقدرتنا الجماعية على التصدي لهذا الانحدار، وتبني نهج إصلاحي شجاع يعيد الاعتبار لقيم الشفافية والنزاهة، ويكفل الحق في حياة كريمة للمواطنين.