ترامب يعيد فتح ملف أسعار الأدوية مع تراجع شعبيته وتصاعد الانتقادات

في خضم مؤشرات متزايدة على تراجع شعبيته، ووسط انتقادات لأدائه الاقتصادي خلال أول 100 يوم من ولايته الرئاسية الثانية، لجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب مجددًا إلى ملف يحظى باهتمام يومي لدى المواطن الأميركي: ارتفاع تكاليف الأدوية والرعاية الصحية.
ورغم تعثر محاولته السابقة في هذا الملف خلال ولايته الأولى بسبب عراقيل قانونية، عاد ترامب ليوقع يوم الاثنين أمرًا تنفيذيًا يربط أسعار الأدوية في الولايات المتحدة بتكاليفها في الدول الصناعية الأخرى. وفي مؤتمر صحفي، أشار إلى أن الأميركيين يدفعون ما بين 5 إلى 10 أضعاف ما تدفعه شعوب دول أخرى لنفس الأدوية المصنعة في نفس المصانع، متعهدًا بإنهاء ما وصفه بـ”الوضع غير المقبول”.
وقد لاقى القرار ردود فعل متباينة، بين من رأى فيه خطوة طال انتظارها لكبح جماح ما يُوصف بـ”جشع شركات الأدوية”، وبين من اعتبره تحركًا إداريًا يفتقر إلى الأسس القانونية اللازمة. في المقابل، أعربت منظمات وشركات دوائية عن قلقها من أن يؤدي القرار إلى اضطرابات في السوق وتراجع في الابتكار.
المرضى بين الأمل والتشكيك
يتصدر المواطن الأميركي قائمة شعوب العالم من حيث الإنفاق السنوي على الأدوية، إذ يتجاوز معدل الإنفاق الفردي 1564 دولارًا سنويًا، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو الأعلى بين الدول الأعضاء.
ومن بين هؤلاء، تأمل “ليلى”، وهي مواطنة محدودة الدخل تعتمد على تغطية “ميديكيد”، أن يخفف القرار أعباءها اليومية، قائلة لموقع الجزيرة نت: “لا يهمني ما يُقال في المؤتمرات أو يُعلن عبر الشاشات. ما يهمني هو أن أستطيع شراء دواء لي ولابني دون أن أفكر مرتين”.
أما “سوزان”، وهي متقاعدة من ضواحي واشنطن، فتؤكد أن القرار “لا يعني لها شيئًا”، إذ تحصل على دواء باهظ مقابل خمسة دولارات فقط شهريًا بفضل تغطية تأمينية شاملة، مضيفة: “لا أثق بنيات ترامب، فهو يحاول فقط كسب الأصوات، لا أكثر. إصلاح نظام الرعاية الصحية يتطلب تغييرات أعمق في علاقة الدولة بشركات الأدوية”.
إحياء سياسات سابقة… بعقبات جديدة
القرار الجديد يعيد إلى الواجهة سياسة “الدولة الأكثر تفضيلًا”، التي اقترحت لأول مرة في 2020 كقاعدة تنظيمية، قبل أن تجمّدها المحاكم الفيدرالية لاحقًا. وقد سحبتها إدارة بايدن رسميًا في 2021.
وتدعم وزارة الصحة الأميركية هذه الجهود، مع خطط للتفاوض مع الشركات وتوسيع التوزيع المباشر للأدوية، بينما أبدت إدارة الغذاء والدواء استعدادها لتسريع الموافقات على الأدوية الجنيسة. كما ألمح القرار إلى إمكانية تفعيل سياسة استيراد الأدوية من الخارج، رغم ما قد تواجهه من عراقيل تنظيمية واعتراضات دولية، خاصة من كندا التي أعربت في السابق عن تحفظها على أن تكون مصدرًا رئيسيًا للسوق الأميركية نظرًا لمحدودية إمداداتها.
مخاوف من غياب آليات تنفيذ فعالة
رحبت منظمة “مرضى من أجل أدوية بأسعار معقولة” بالقرار، لكنها في الوقت ذاته عبّرت عن مخاوفها من افتقاده لآليات تنفيذية واضحة، مشيرة في رسالة خاصة لـالجزيرة نت إلى عدة إشكاليات أبرزها:
- عدم تحديد عقوبات واضحة في حال عدم امتثال الشركات.
- غموض في كيفية دمج آليات التوزيع الجديدة مع أنظمة التأمين القائمة.
- تحديات قانونية محتملة في ربط الأسعار بالدول الأجنبية.
- ضعف الموارد المتاحة للجنة التجارة الفدرالية لممارسة الرقابة بفعالية.
- غياب خطة واضحة لدمج القرار مع برنامج “ميديكير” الحكومي.
هجوم من شركات الأدوية وتحذير من تهديد الابتكار
وفي أول رد فعل رسمي، أصدرت رابطة شركات الأدوية الأميركية “فارما” بيانًا وصفت فيه القرار بـ”الخطير وغير المسؤول”، معتبرة أنه “ينقل سياسات التسعير الحكومية من الخارج إلى الداخل الأميركي ويهدد وصول المرضى إلى أدويتهم”.
وأضاف البيان أن ربط الأسعار الخارجية بالأسواق الأميركية “يهدد بإضعاف الابتكار وتقليل الاستثمار في البحث والتطوير”، من دون وجود ضمانات حقيقية بخفض الأسعار محليًا.
ويذهب بعض محللي اقتصاد الصحة إلى أبعد من ذلك، محذرين من أن القرار قد يثقل كاهل برامج التأمين الفيدرالية مثل “ميديكير” و”ميديكيد”، ما لم يصاحب تطبيقه إصلاح شامل لسلاسل الإمداد. كما يشيرون إلى أن فعالية القرار تبقى رهينة بتدخل تشريعي من الكونغرس يمنح وزارة الصحة صلاحيات أوسع لتطبيقه.
تساؤلات قانونية… ومعارضة محتملة داخل الحزب الجمهوري
تُطرح تساؤلات قانونية أساسية حول القرار، من أبرزها: ما الجهة التي تمتلك الصلاحية لفرض سقوف الأسعار؟ وما هي الدول التي سيتم اعتمادها كمراجع تسعير؟ إذ تختلف النماذج بين دول تتدخل فيها الدولة مباشرة مثل ألمانيا وكندا، والولايات المتحدة التي تُدار وفق نموذج السوق الحرة.
وترى جولييت كوبانسكي، نائبة مدير برنامج “ميديكير” في “مؤسسة كايزر للأسرة”، أن بعض جوانب القرار قد تُقابل برفض من داخل الحزب الجمهوري نفسه، نظرًا لتحفظه التاريخي على تدخل الدولة في آليات التسعير. كما حذّرت من أن الشركات قد تعمد إلى رفع الأسعار في الأسواق الخارجية لتعويض الخسائر، ما يحدّ من فعالية القرار داخليًا.
براءات الاختراع… العقدة الأعمق
يبقى جوهر أزمة الأسعار المرتفعة مرتبطًا بنظام براءات الاختراع، الذي يُتيح لشركات الأدوية تمديد احتكارها للأدوية عبر ما يُعرف بـ”التحسينات الثانوية” دون إضافة ابتكار حقيقي. وقد أظهرت دراسة لمنظمة “آي ماك” أن الأدوية الأربعة الأعلى مبيعًا في الولايات المتحدة تُغطيها ما بين 68 و108 براءات، بما يسمح بفترة احتكار تصل إلى 19 عامًا.
ورغم أن القرار التنفيذي يركز على ربط الأسعار بالأسواق الخارجية، فإنه لا يتطرق إلى إصلاح نظام البراءات أو الحد من “تكديسها”، ما يُبقي واحدة من أبرز أدوات حماية الأسعار المرتفعة خارج نطاق المعالجة.
ويحذر خبراء من أن تجاهل هذا البُعد القانوني قد يسمح للشركات بمواصلة ممارساتها الاحتكارية، حتى لو تم فرض سقوف سعرية مؤقتة، ما يجعل التأثير الفعلي للقرار محدودًا على المدى الطويل.