ترامب وبنما.. قناة استراتيجية في قلب صراع الهجرة والنفوذ الصيني

في مستهل ولايته الثانية، وضع الرئيس الأميركي دونالد ترامب دولة بنما وقناتها الشهيرة في صميم أولوياته السياسية، عبر اختبار مزدوج استهدف قضيتين أساسيتين: مكافحة الهجرة غير النظامية عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، والتصدي لتوسع النفوذ الصيني في أميركا اللاتينية. وذهب ترامب إلى حد المطالبة بـ”استعادة قناة بنما”، متهماً الصين بالسيطرة الفعلية عليها، معتبراً ذلك تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الأميركي.
وتزامنًا مع هذا الموقف، حطّ وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، ماركو روبيو وبيت هيغسيث، في أول زيارة رسمية إلى بنما، حيث ركز الأول على التنسيق الأمني في ملفات الهجرة، بينما تناول الثاني الأبعاد العسكرية المرتبطة بوجود الصين في مفاصل البنية التحتية البنمية، ولا سيما الموانئ.
استجابة بنمية وتحولات سياسية واقتصادية
واجهت حكومة بنما الضغط الأميركي بتقديم تنازلات استراتيجية، أبرزها التفاوض على نقل إدارة بعض موانئ القناة من شركة صينية إلى أخرى أميركية، إضافة إلى تعزيز التعاون في ملف ترحيل المهاجرين الذين دخلوا الأراضي الأميركية بصورة غير قانونية. كما دعمت بنما جهود واشنطن في كبح تدفقات المهاجرين عبر أراضيها، وتحديدًا في غابة “دارين” التي تشكل ممرًا بريًا حيويًا بين أميركا الجنوبية والشمالية.
وبينما لا تمتلك بنما جيشًا وطنيًا منذ حله بعد الغزو الأميركي عام 1989، فقد اعتمدت في مكافحة الهجرة على تعزيز قدرات شرطتها الوطنية، وسعت إلى تقوية التنسيق الأمني مع واشنطن، وصولاً إلى توقيع مذكرة تفاهم في يوليو 2024 لاستقبال آلاف المرحّلين من الولايات المتحدة، والانفتاح على فكرة إقامة مؤقتة أو دائمة للمهاجرين من دول ثالثة.
العقدة الصينية.. نفوذ اقتصادي مقابل اختلال في الحياد
يعتبر الملف الصيني أحد أعقد محاور التوتر. إذ يرى مسؤولون أميركيون أن بكين تستخدم سيطرتها على بعض الموانئ البنمية، عبر شركة “هاتشينسون” التي تتخذ من هونغ كونغ مقراً لها، كورقة جيوسياسية قد تُستغل لعرقلة الإمدادات العسكرية أو الشحنات الأميركية، خاصة في حال نشوب أزمة حول تايوان.
وتقع موانئ “بالبوا” و”كريستوبال” في نقطتين استراتيجيتين عند طرفي القناة، ما يمنحها أهمية بالغة في أي صراع جيوسياسي. وفي ضوء الضغوط الأميركية، أعلنت بنما في فبراير/شباط 2025 انسحابها رسميًا من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وبدأت تدقيقًا شاملاً في أنشطة الشركة الصينية المشغلة للموانئ.
تاريخ شخصي متقلب بين ترامب وبنما
بعيدًا عن السياسة، يحمل ترامب سجلاً تجاريًا معقدًا في بنما. فقد بدأت علاقته بالبلاد عام 2003 بتنظيم مسابقة ملكة جمال العالم، وتوسعت ببناء برج فاخر يحمل اسمه. غير أن النزاعات القانونية والإدارية بين شركائه المحليين أدت إلى أزمة علنية، انتهت بإزالة اسمه من البرج عام 2018، في مشهد نقلته وسائل الإعلام البنمية مباشرة، وأثار ردود فعل احتفالية بين خصومه. وأصبح البرج اليوم فندق “جي دبليو ماريوت” الشهير.
ويُرجح محللون، مثل السياسي البنمي رودريغو نورييغا، أن الخلفية الشخصية لترامب في بنما قد أسهمت في مواقفه الصدامية، معتبرين أن إزالة اسمه من البرج كانت بمثابة “إهانة علنية” دفعت بالرئيس الأميركي إلى تبني نهج أكثر تشددًا تجاه بنما.
حياد القناة بين القانون والمصالح
اتهم ترامب بنما بفرض رسوم “ظالمة” على السفن الأميركية المارة عبر القناة، وطالب بإلغائها، في خطوة تراها بنما خرقًا لاتفاقية الحياد المعمول بها. ومع ذلك، تعمل السلطات البنمية بهدوء على إيجاد صيغة توازن بين الامتثال القانوني وتلبية المطالب الأميركية، خصوصًا أن 74.7% من حركة الشحن في القناة خلال عام 2024 كانت أميركية، مقابل 21.4% للصين.
ويؤكد الخبير القانوني البنمي، ألونسو إيلوسيا، أن تقديم امتيازات خاصة للولايات المتحدة من شأنه تقويض الحياد القانوني للقناة، ويفتح الباب أمام مطالب مشابهة من دول أخرى. لكنه في الوقت ذاته يقر بأن إنهاء عقود الشركات الصينية قد يكون خطوة ضرورية لتعزيز السيادة ومكافحة الفساد.
مستقبل مشترك.. مصلحة بنما في الاستقرار مع واشنطن
تُدرك بنما، حكومةً وشعبًا، أن استقرارها الاقتصادي والسياسي يرتبط بعلاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة. فاعتمادها الرسمي على الدولار، وانفتاحها المالي على أسواق نيويورك ولندن، يمثلان ركيزة لاستقرارها. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أكثر من 90% من السكان لا يرغبون في تغيير العملة الأميركية، مما يعكس مدى الارتباط العميق بالاقتصاد الأميركي.
ويرى نورييغا أن أي توتر في العلاقات مع واشنطن قد يضرب جوهر النموذج الاقتصادي البنمي، ويؤثر سلبًا على موقعها كمركز مالي إقليمي، مضيفًا أن ترامب على دراية تامة بهذه المعادلة.
في السياق ذاته، ساهمت ضغوط واشنطن في تسريع خطوات بنما نحو تنفيذ مشروع سد استراتيجي لتحسين إمدادات المياه في القناة، في ظل التهديدات المتكررة بالجفاف، والتي أثارت قلق واشنطن بشأن استمرار كفاءة القناة.