اقتصاد

تراجع الأسعار في سوريا لا ينعكس على معيشة المواطنين: الرواتب لا تكفي والاحتياجات تتزايد

رغم ما تعلنه المؤشرات الرسمية في سوريا عن تحسن نسبي في سعر صرف الليرة وانخفاض بعض أسعار السلع، فإن الواقع المعيشي لغالبية الأسر لا يزال بعيدًا عن التحسّن، وسط عجز الرواتب عن تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، واستمرار ارتفاع تكاليف السكن والخدمات الأساسية.

ففي بلد خضع لإعادة هيكلة اقتصادية مؤخراً، شملت تحرير أسعار عدد من السلع الحيوية مثل الخبز والغاز، بقي دخل المواطن السوري عاجزًا أمام التضخم، مع ضعف القدرة الشرائية واتساع الفجوة بين الدخل والنفقات.

المعيشة بالأرقام: بين الخبز والإيجار

“الأسعار قد تنخفض على الورق، لكننا لا نشعر بها”، تقول عفاف السالم (47 عاماً)، وهي تعمل جليسة لكبار السن في دمشق، مضيفة أن التراجع المحدود في أسعار بعض المواد الغذائية لم يغيّر من واقعها اليومي، في ظل ارتفاع أسعار الخبز والغاز، وقفزات الإيجارات.

عائلة عفاف، المكونة من ستة أفراد، تستهلك يوميًا ما يقارب ثلاث ربطات من الخبز بتكلفة شهرية تبلغ نحو 300 ألف ليرة (30 دولارًا)، بينما ارتفع إيجار منزلها في منطقة الدويلعة من 450 ألف إلى 750 ألف ليرة (75 دولارًا). في المقابل، لا يتجاوز دخلها الشهري 1.3 مليون ليرة (130 دولارًا)، بالكاد يكفي لتغطية الخبز والسكن.

تعتمد عفاف على دعم أبنائها، إذ يرسل ابنها الأكبر تحويلات من لبنان، بينما تعمل ابنتها إلى جانب دراستها الجامعية.

أما نورس كحيلة (51 عاماً)، موظف في البنك العقاري، فيصف الوضع المعيشي بأنه “مختنق”، فرغم زيادة راتبه بنسبة 200%، لا يغطي سوى 20% من مصروف عائلته. يقول: “أدفع 200 ألف ليرة على المواصلات فقط، ونحو مليوني ليرة للطعام. لم نشترِ ملابس أو نخرج في نزهة منذ أشهر”. ويُقدّر نفقات أسرته بنحو 6 ملايين ليرة شهريًا (600 دولار)، ما اضطره للعمل مساءً في مكتب عقاري لسد العجز.

الإيجارات.. استنزاف لا يتوقف

تُعد الإيجارات من أبرز التحديات التي تواجه الأسر السورية، خاصة في دمشق وريفها، حيث ارتفعت أسعار الشقق بشكل حاد في ظل محدودية العرض وعودة المغتربين واللاجئين. ويؤكد فؤاد الحنون، صاحب مكتب عقاري في باب مصلى، أن زيادة الطلب، وغياب الرقابة، وارتفاع تكاليف البناء، دفعت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.

ويُقدّر متوسط الإيجارات في المناطق الشعبية مثل المزة 86، ركن الدين، مساكن برزة، صحنايا وجرمانا، بين 1.5 إلى 2 مليون ليرة (150 – 200 دولار)، فيما تتراوح في الأحياء الراقية بين 5 و10 ملايين ليرة (500 – 1000 دولار)، وقد تصل في مناطق مثل المالكي وأبو رمانة إلى 30 مليون ليرة شهريًا (3000 دولار).

اقتصاد السوق… والدولة غائبة

في ظل ارتفاع الأسعار، يغيب التدخل الحكومي الفعّال. ووفق حسن الأحمد، مدير الإعلام في وزارة الاقتصاد والصناعة، فإن الحكومة السورية تتبنى سياسة “اقتصاد السوق الحر التنافسي”، ما يعني عدم تدخلها المباشر في التسعير، بل الاكتفاء بتنظيم الإطار العام للسوق ومحاربة الاحتكار.

وأكد الأحمد أن “آلية التسعير مرنة وتُحدَّد وفق العرض والطلب والتكلفة والجودة”، داعيًا إلى تعزيز المنافسة كحلّ لخفض الأسعار، في وقت يعتبر فيه المواطن أن الدولة تخلّت عن دورها الرقابي.

الخبراء: التراجع شكلي والتقشف إجباري

الخبير الاقتصادي يونس الكريم يرى أن تقدير كلفة المعيشة بات مهمة معقدة في ظل الفوضى الاقتصادية، مشيرًا إلى أن المؤشرات الرسمية لا تعكس الواقع الكامل، خصوصاً مع غياب عناصر رئيسية مثل الإيجار والنقل والتعليم عن الحسابات.

ويستشهد الكريم بمؤشر “قاسيون”، الذي أظهر تراجعًا في كلفة معيشة الأسرة السورية (5 أفراد) من 9 إلى 8 ملايين ليرة (900 إلى 800 دولار) خلال الربع الأول من العام، لكنه يؤكد أن هذا الانخفاض لا يُترجم إلى تحسن فعلي، بل هو نتيجة “تقشف قسري وإعادة ترتيب الأولويات”.

ويرى الكريم أن سياسة “تجفيف السيولة” التي تنتهجها الحكومة ساهمت في انخفاض أسعار بعض السلع، مقابل ارتفاع أخرى، خصوصًا الأساسية. ويحذّر من احتمال عودة الأسعار للارتفاع قريبًا بسبب تراجع الربحية وخروج بعض التجار من السوق.كما يُرجع الكريم ارتفاع أسعار الغاز والمحروقات إلى احتكار الاستيراد من قبل الحكومة وشركاء تجاريين، ما يحد من الكميات المطروحة ويبقي الأسعار مرتفعة.

ختامًا… صمود مرّ

بين ضغوط الرواتب المنهكة، والإيجارات المتصاعدة، والأسعار المتقلبة، يبقى المواطن السوري عالقًا في معادلة معيشية معقدة لا تترك له سوى هامش ضئيل من الأمل. ورغم أن دمشق لا تزال تنبض بالحياة بين الأسواق والمنازل، إلا أن هذا النبض بات مكسوًا بثقل الحاجة، ومعركة يومية لتأمين ضروريات الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى