تحوّل الموقف الأوروبي من إسرائيل: بين مراجعة الذات والضغط الشعبي

أوروبا من الدعم الأعمى إلى مساءلة الكيان
لسنوات طويلة، شكّلت أوروبا سندًا ثابتًا للكيان الصهيوني، سواء عبر دعم سياسي غير مشروط أو تعاون اقتصادي وأمني وثيق. غير أن التحولات الأخيرة في المشهد الإنساني والسياسي، خاصة في ظل الإبادة الجماعية التي تُرتكب على مرأى من العالم بحق المدنيين في قطاع غزة، دفعت أوروبا إلى مراجعة جوهرية لمواقفها التاريخية. ومع تزايد الضغط الشعبي والحقوقي، تبدو القارة العجوز اليوم على أعتاب موقف أكثر تماسكًا وإنصافًا تجاه القضية الفلسطينية.
الواقع الإنساني في غزة: صور لا يمكن إنكارها
تواجه غزة اليوم واقعًا كارثيًا: مجاعة شبه شاملة، أنظمة صحية منهارة، نزوح جماعي، وقصف متواصل يستهدف الأحياء المدنية والبنية التحتية. الأرقام القادمة من المنظمات الأممية، واللقطات الحية التي تبثها وسائل الإعلام العالمية، كشفت حجم المأساة الإنسانية وعمق الجريمة. هذه الصور أصبحت عنصرًا حاسمًا في توجيه الرأي العام الأوروبي وإجباره على طرح أسئلة عميقة حول أخلاقيات الشراكة مع كيان يرتكب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني.
أوروبا الرسمية: بداية تشقّق في جدار الصمت
بدأت بعض الحكومات الأوروبية، مثل إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، في التعبير علنًا عن امتعاضها من السياسات الإسرائيلية، ملوّحة بإمكانية اتخاذ خطوات ملموسة تشمل مراجعة الاتفاقيات الثنائية، وفرض قيود على تصدير الأسلحة، بل وحتى دعم المساءلة الدولية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. هذه التصريحات لم تعد هامشية، بل أصبحت تجد صدى واسعًا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، حيث تُطرح أسئلة صريحة عن مدى التزام الاتحاد بالقيم التي يدّعي تمثيلها.
الضغط الشعبي: صوت الشارع يعلو فوق المصالح
الاحتجاجات التي عمّت العواصم الأوروبية لم تكن اعتيادية. آلاف المواطنين خرجوا، من خلفيات متنوعة، ليطالبوا بوقف فوري للعدوان، وفرض عقوبات على إسرائيل، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة. الجامعات، النقابات، ومؤسسات المجتمع المدني باتت تضغط بقوة، مما جعل الحكومات الأوروبية تجد نفسها في مواجهة أزمة أخلاقية لا يمكن تجاهلها دون ثمن سياسي داخلي.
انقسام داخل إسرائيل: تفكك داخلي في مواجهة الهزيمة
في المقابل، يشهد الداخل الإسرائيلي انقسامًا غير مسبوق بين تيارات سياسية وعسكرية. هناك من بات يعتبر الحرب خاسرة وتدميرية لأمن إسرائيل الداخلي ومكانتها الدولية، بينما يصر التيار المتطرف على مواصلة القتل والتدمير تحت ذريعة الدفاع عن النفس. هذا الانقسام يزيد من عزلة الكيان دوليًا، ويعكس فشلًا استراتيجيًا في إدارة الصراع.
خاتمة: لحظة الحقيقة لأوروبا والعالم
إن التحول الجاري في الموقف الأوروبي لا يزال في بدايته، لكنه يشير إلى تصدع في أسس الدعم التقليدي للكيان الصهيوني. أمام القارة الأوروبية اليوم اختبار حقيقي: إما أن تترجم هذا الغضب الأخلاقي إلى مواقف سياسية حازمة، أو أن تظل أسيرة حسابات المصالح والضغوط. ومهما تكن النتيجة، فإن العالم بات يرى بشكل أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، أن الصمت عن الجرائم ليس حيادًا، بل تواطؤ.