الهوية: ما بعد الرق/ بقلم الأستاذ أبوبكر سيلا (بتصرف)

الهوية: ما بعد الرق
إن قضية الهوية ما بعد الرق من الإشكاليات التي تبرز بقوة بعد تحرير الأرقاء السابقين، دون الخوض في الجدل القديم حول شرعية الرق المحلي. فهذه القضية تتشابك مع العديد من المشكلات والعراقيل على المستويات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وحتى النفسية.
ومثلما تبدأ معاناة الأغصان عند قطعها عن جذوعها، كذلك الإنسان عندما يُجتث من أصوله وينفصل عن قومه، فيجد نفسه في حالة من التيه والضياع. فالرقيق هو ذلك الفرع الذي اقتُلع من أصله العرقي والقومي، ومن البديهي بعد التحرير أن يسعى للبحث عن هويته العرقية والثقافية. إذ أن تشكل الهوية الثقافية يرتبط بشكل كبير بإحساس الأفراد بمعنى الحياة، كما أن تحديد الهوية العرقية له دور أساسي في التعارف بين البشر، كما جاء في قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا”.
وقد أُثير في الآونة الأخيرة الجدل المتجدد حول هوية “الحراطين” في موريتانيا: هل هم جزء من “البيظان”، أم أنهم مكون مستقل ذو أصول زنجية؟ وإن لم يكن الحراطين بيظانًا رغم اندماجهم الثقافي واللغوي والفني، فكيف تتحدد هوية العبيد السوننكيين السابقين؟ هل هم سوننكيون انتماءً قوميًا استُعبدوا قبل ذويهم وأبناء عمومتهم؟ أم أنهم في الأصل شتات من قوميات إفريقية أخرى استُرقوا من قِبل السوننكي، ولا يجمعهم سوى وحدة المعاناة أو ما يُعرف في التعبير السوننكي الاجتماعي بـ “kathien baané” (وحدة الحبل والسلسلة)؟
إن مراجعة سريعة لتاريخ العبودية في المجتمع السوننكي تكشف أن الأرقاء السابقين وأسيادهم لم تكن تجمعهم أي رابطة تاريخية سوى العبودية، ولم تكن تربطهم روابط نسبية أو هوية عرقية مشتركة. فالهوية العرقية السوننكية تُحدد وفقًا لألقاب العوائل، التي تميز السوننكي الأصيل عن الدخيل. ومعظم ألقاب الأرقاء السابقين تنتمي إلى قوميات أخرى، مثل البمبارا، والموسا، والماندي، مما يشير إلى أنهم ليسوا سوننكيين أصالة، وإنما أصبحوا كذلك لاحقًا من خلال اللغة والثقافة.
ومن الجدير بالذكر أن قادة النضال الحقوقي في المجتمع السوننكي لم يثيروا خلال ثورتهم ضد العبودية قضية الهوية القومية، رغم أنهم لم يكونوا جزءًا من القومية السوننكية في الأصل، بل انتموا إليها تبعًا للاندماج الاجتماعي. لم يدّعِ أحد منهم انتماءه إلى القومية البمبارية، بل ركزوا على مقاومة الظلم الاجتماعي والتقاليد الجاهلية التي كرّست رواسب العبودية، بما في ذلك العبودية العقارية.
وهنا يُطرح السؤال: هل من المنطقي البحث عن الجذور التاريخية لهؤلاء الأرقاء السابقين بعد اندماجهم في المجتمع السوننكي وفقدانهم لغاتهم وثقافاتهم وذاكرتهم القومية؟ أرى أن ذلك ليس مستساغًا ولا ممكنًا، إذ أن الهوية ما بعد الرق لا يمكن تحديدها إلا من خلال اللغة والثقافة، نظرًا لصعوبة التحقق من أصول الأرقاء السابقين، الذين لم يكونوا ينتمون إلى أصل واحد. فالتاريخ لا يوثق لهم رابطًا سوى وحدة المعاناة التي جمعتهم، ولا تجمعهم إلا الحبال والسلاسل التي قيدت أسلافهم في الأسواق النخاسية، حيث فقدوا هوياتهم وآمالهم وأحلامهم. ومن هنا، يمكن القول إن كل من تكلم بلغة قوم فهو منهم، بغض النظر عن اللون أو العرق.
أبوبكر سيلا
أستاذ وناشط حقوقي