رأي آخر

القمة العربية في بغداد: نحو استراتيجية عربية فاعلة لمواجهة التغول الصهيوني الداهم…


في ظلّ تصاعد وتيرة الانتهاكات الصهيونية المُمنهجة ضد الشعب الفلسطيني، والتي تجلت في عمليات التهجير القسري، وتدنيس المقدسات، واستباحة الدماء، تبرز الحاجةُ الملحّة لصياغة استراتيجية عربية شاملة تُعيد الاعتبارَ لمفهوم “الكرامة الجماعية”، وتُحوّل الخطابَ السياسي من دائرة التنديد اللفظي إلى فضاء الفعل الاستراتيجي. إن القمة العربية في بغداد ليست مجرد محفلٍ دبلوماسيٍ تقليدي، بل هي لحظةٌ تاريخيةٌ لتجسيد الإرادة السياسية العربية في مواجهة مشروعٍ استعماريٍ يتهدّدُ وجودَ الأمة وهويتها.


المحور الأول: تفكيك أُطُر التطبيع.. نحو شرعية ثورية جديدة

لا يُمكن للخطاب العربي أن يكتفي بادّعاء دعم القضية الفلسطينية ما دامت بواباتُ التطبيع مع الكيان الصهيوني مفتوحةً على مصراعيها. فالقضيةُ اليوم تتطلب إعلانَ قطيعةٍ استباقيةٍ شاملة مع كل أشكال التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي، كخطوةٍ أولى نحو إعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة. هذا القرار –إن صُدقَت النوايا– سيكون إعلاناً عملياً بأن الشعوب العربية ترفض أن تكون دماءُ أبنائها مُجرد ورقة تفاوضٍ في صفقاتٍ دوليةٍ مشبوهة.


المحور الثاني: التعبئة الدفاعية المشتركة.. من الخطاب الترهيبي إلى الفعل الردعي

لم يَعُد مقبولاً أن تبقى القدراتُ العسكرية العربية حبيسةَ حدود السيادة الضيقة، بينما يُنتهكُ أقدسُ المقدسات تحت سمع العالم وبصره. إن إنشاء قوة ردع عربية مشتركة –بريةً وجويةً وبحرية– ليس خياراً ترفياً، بل ضرورةٌ وجوديةٌ تُرسلُ رسالةً واضحةً للعدوّ: أن الأمةَ العربية باتت جداراً منيعاً ضدّ أي عدوان. هنا، تُصبح العُبَرات العسكرية العربية لغةً دوليةً يفهمها العالم بمنطق القوة لا الاستجداء.


المحور الثالث: الحصار الاستراتيجي.. اقتصادياً وثقافياً

إن إضعافَ الكيان الصهيوني لن يتحقق إلا عبر خنقه في ميدانَيْ الاقتصاد والثقافة. فالمقاطعةُ الاقتصادية الشاملة –بما تشمله من حظرٍ للاستثمارات، ومقاطعةٍ للشركات الداعمة– ستُحدثُ شللاً تدريجياً في بنيته المالية. أما على الصعيد الثقافي، فيجب فرضُ حصارٍ فكريٍّ صارم عبر قطع كل أشكال التبادل الأكاديمي أو الفني مع مؤسساته، لتفكيك آلياته الناعمة في تزييف الوعي الجماعي.


المحور الرابع: الآلية الرقابية العربية.. ضمان التنفيذ ومحاسبة المتهاون

لضمان جدية القرارات، لا بد من تأسيس هيئة رقابية عُليا ذات صلاحيات تنفيذية، تُراقب التزام الدول العربية ببنود الاستراتيجية، وتُصدر تقاريرَ دوريةً تُعرّي أي تقاعسٍ أو تواطؤ. هذه الهيئة يجب أن تعمل بمنطقٍ مؤسسيٍ بعيداً عن المحسوبيات السياسية، وأن تكون قراراتُها ملزمةً بموجب ميثاقٍ عربيٍّ جديدٍ يُجرّم التطبيعَ ويعتبره خيانةً عُظمى.


الخاتمة: بغداد.. محطةُ التحول من خطاب الضحايا إلى فاعلية المنتصرين

إن التاريخ لن يرحمُ من يقفُ متفرجاً أمام مأساةٍ إنسانيةٍ تُذكّرُ العالم بمحاكم التفتيش ومذابح الاستعمار. فالقمةُ العربية في بغداد هي اختبارٌ حقيقيٌّ لإرادة النخب الحاكمة: إما أن تُكتبَ كمنعطفٍ تاريخيٍ يُعيدُ للأمة كبرياءها المفقود، أو تُسجّلَ كفصلٍ آخرَ من فصول الخذلان. القدسُ لن تنتظرَ أكثر، والدمُ الفلسطينيُ يصرخُ: “كفى!”. فلتَكُن بغدادُ البدايةَ الحقيقيةَ لعهدٍ عربيٍّ جديد، أو لن تكون!


ملاحظة بحثية:
هذه الورقة تُقدّم رؤيةً استشرافيةً قائمةً على تحليل الواقع السياسي الراهن، مع ضرورة ربطها بآليات التنفيذ الفعلي التي تتطلب إرادةً فوق-سيادية، وتعاوناً استثنائياً بين الحكومات والمجتمعات العربية، لتحويل الكلمات إلى فعلٍ يُعيدُ رسمَ معادلات القوة في المنطقة.

زر الذهاب إلى الأعلى