القدس في السينما المغربية.. حضور رمزي في ظل غياب عربي

في زمن تتراجع فيه الشاشة العربية عن طرح القضايا المصيرية، يبرز حضور القدس في السينما المغربية كفعل مقاومة رمزي في مواجهة التهميش والتحديات السياسية والإنتاجية.
فعلى مدار تاريخها، لم تنتج السينما المغربية سوى ثلاثة أعمال تناولت القدس بشكل مباشر، وهي: الفيلم القصير القدس، أبنادم للمخرج مصطفى الشعبي، والفيلمان الوثائقيان الأقصى يسكن الأقصى لعبد الرحمن لعوان، والقدس باب المغاربة للمخرج الراحل عبد الله المصباحي.
لكن أهمية هذه الأعمال لا تكمن في عددها القليل، بل في قدرتها على تجسيد انشغال مغربي صادق بالمدينة المقدسة، يتجاوز البعد السياسي والديني ليصل إلى عمق الوجدان والذاكرة.
وتعيد هذه الأعمال طرح تساؤلات عميقة حول علاقة المغاربة بفلسطين والقدس، وعن كيفية تمثل المدينة في خيال سينمائي بعيد جغرافياً، لكنه شديد القرب رمزياً.
صورة من بعيد.. لكن الحضور عميق
يؤكد الناقد السينمائي مصطفى الطالب أن هذه الأفلام الثلاثة، رغم اختلاف أجناسها، تشكل معاً لوحة متكاملة تعبر عن انشغال مغربي حقيقي بالقدس. ففي حديثه للجزيرة نت، يقول: “الفيلم القصير اشتغل على الرمز من خلال قصة شبابية ترتبط بكرة القدم، بينما ركز الفيلمان الوثائقيان على تثبيت الحقائق واستحضار الذاكرة الجماعية”.
ويرى الطالب أن تمازج الروائي والوثائقي يمنح هذه التجارب قوتها، “فالروائي يُشعر، والوثائقي يُقنع، وكلاهما يرسخ رمزية القدس كقضية حية في وعي المغاربة”.
من السؤال إلى الفيلم.. ولادة الفكرة الوجدانية
المخرج عبد الرحمن لعوان، صاحب الفيلم الوثائقي الأقصى يسكن الأقصى، ينطلق من تساؤل وجودي: “ما سر هذا الارتباط القوي بين المغاربة وفلسطين، رغم بُعد المسافة الجغرافية؟”، سؤال تحوّل إلى فكرة، ثم إلى مشروع سينمائي حمل طابعاً وجدانياً عميقاً.
أما مصطفى الشعبي، فقد استلهم فيلمه القدس، أبنادم من شعور بالقهر الرمزي والخذلان، حيث صوّر حكاية مجموعة من الفتيان المغاربة يثورون على قمصان تحمل عبارة “القدس عاصمة الكيان”، في مشهد رمزي كثيف يختزل روح المقاومة.
رئيس مهرجان القدس السينمائي الدولي، عز الدين شلح، يؤكد أن هذه التجارب لا تُنتج إلا بدوافع شخصية قوية، مضيفاً: “الضعف ليس في الفكرة، بل في غياب الدافع لدى كثير من صناع السينما عندما لا يكونوا على تماس وجداني مع المدينة”.
السينما كأداة للوعي.. لا مجرد سرد
الأفلام الثلاثة تتجاوز التمثيل البصري العادي، وتسعى إلى تحفيز الوعي واستنهاض الذاكرة تجاه قضية تُسرق يومياً على شاشات الأخبار. فبينما يحاكي القدس، أبنادم الانتفاضة من خلال مشهد رمزي لصبية يرشقون فريقاً يرتدي قمصاناً تمثل الاحتلال، يوظف لعوان في فيلمه الوثائقي أرشيفاً غنياً وشهادات من شخصيات وازنة، مثل عبد الهادي التازي وسعيد الحسن.
ويقول لعوان إن قوة الوثائقي تكمن في تحويل المعلومة التاريخية والثقافية إلى مادة بصرية يسهل تداولها بين الأجيال، دون الحاجة إلى تنظير أو سرد أكاديمي ممل.
أما الطالب، فيرى أن “سرد الشعبي يتسم ببساطة ظاهرة وعمق خفي؛ مشاهد صامتة تقريباً، تتحدث فيها الحجارة والقمصان، في دعوة صريحة إلى الصحوة والوعي”.
حين تعجز الكاميرا عن دخول القدس.. تحضر الرمز
غياب المشاهد الفعلية للقدس لم يمنع صناع الأفلام من استحضار المدينة بقوة. في فيلم القدس، أبنادم، تحوّل ملعب الحي إلى ساحة انتفاضة، والقمصان إلى رموز احتلال، والحجارة إلى أدوات مقاومة. يرى الناقد مصطفى الطالب أن “غياب المكان الحقيقي عُوّض بطاقة رمزية أقوى، جعلت من الفيلم صرخة ضد الغفلة”.
أما المخرج الراحل عبد الله المصباحي، فكان الوحيد الذي صوّر داخل المدينة المقدسة، بينما اعتمد لعوان على مواد أرشيفية ومقابلات من داخل المغرب، مستنداً إلى قناعة راسخة بأن “القدس تسكن الوجدان المغربي، حتى لمن لم تطأ قدمه أرضها”.
تحديات الإنتاج.. والرهان على الإيمان بالقضية
إنتاج أفلام عن القدس من داخل المغرب ليس إنجازاً فنياً فحسب، بل مغامرة تتطلب إصراراً في ظل غياب الدعم. يروي لعوان كيف واجه صعوبات في الحصول على ترخيص مركز السينما المغربي، في وقت تُمنح فيه الاعتمادات بسهولة لأعمال ترفيهية.
ومع ذلك، حقق الفيلم الوثائقي صدى واسعاً في المهرجانات والمنصات، ما يؤكد أن المضمون الجاد لا يزال قادراً على لفت الانتباه متى توفر الإخلاص والرؤية.
ويرى الطالب أن ضعف الإمكانيات لم يمنع مصطفى الشعبي من إنتاج فيلم رمزي مؤثر، مضيفاً: “لو توفرت له موارد أفضل، لكان الأثر أعمق، لكنه رغم ذلك نجح في إعادة طرح القضية في وجدان الجمهور”.
من جهته، يشدد شلح على أن “غياب السياسات الداعمة لقضية القدس سينمائياً هو العائق الحقيقي”، مضيفاً أن التمويل الذاتي لا يكفي دون رؤية مؤسساتية تعطي للقدس الأولوية.
الختام: صوت فردي في زمن الصمت
رغم تواضع العدد، تمثل أفلام مثل القدس، أبنادم والأقصى يسكن الأقصى والقدس باب المغاربة محاولة جدية لإبقاء القدس حاضرة في الذاكرة السينمائية المغربية. إنها تجارب فردية في وجه صمت جماعي، تنجح في استدعاء المدينة المسلوبة عبر الرمز، وتحويلها من جغرافيا بعيدة إلى قضية حية تسكن الشارع المغربي.
في زمن الانكفاء واللامبالاة، تظل هذه الأعمال شهادة على أن السينما، حين تنطلق من الإحساس الصادق، يمكن أن تعيد رسم خارطة الوعي، وتمنح القدس من جديد صوتًا على الشاشة.