ثقافة

القبيلة كعقبة أمام الدولة المدنية في موريتانيا: قراءة في خطاب رئيس الجمهورية بمقاطعة انبيكت لحواش

يتناول هذا المقال دلالات الخطاب الأخير لرئيس الجمهورية في مقاطعة انبيكت لحواش بالحوض الشرقي، حيث دعا إلى التوقف عن الشحن القبلي واستغلال الأطر لخدمة الولاءات التقليدية، محذّرًا من أي نشاط يتعارض مع أهداف الدولة المدنية. يحاول المقال تحليل هذا الخطاب في سياقه السياسي والاجتماعي، وقراءته كإشارة متأخرة إلى وعي الدولة بخطورة تغوّل البنية القبلية، مع استشراف السبل الممكنة لتجاوزها. وينتهي المقال إلى أن بناء دولة المواطنة في موريتانيا لن يتحقق إلا من خلال قطيعة فعلية مع النظام القبلي المهيمن، واعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في إدارة الشأن العام.

مقدمة

تُعدّ البنية القبلية أحد أبرز مكونات المجتمع الموريتاني وأعمقها تأثيرًا في تشكيل النظام السياسي والاجتماعي. وقد ظلّت القبيلة — منذ نشأة الدولة الحديثة — تلعب دورًا يتجاوز حدودها الاجتماعية لتصبح فاعلًا سياسيًا يوجّه التعيينات، ويؤثر في توزيع الموارد، ويعيد إنتاج الولاءات على حساب مبدأ المواطنة والمساواة.
وفي هذا السياق، يكتسب خطاب رئيس الجمهورية في مقاطعة انبيكت لحواش أهمية خاصة، إذ يُعدّ من المرات القليلة التي يتحدث فيها رأس الدولة بصراحة عن ضرورة كبح الشحن القبلي، ووقف استغلال الأطر لخدمة العصبيات، مؤكدًا أن هذا السلوك يُعدّ مناقضًا لأهداف الدولة ومقوماتها المدنية.

أولًا: دلالات الخطاب الرئاسي

يعبّر الخطاب عن وعي متأخر — لكنه ضروري — بخطورة تغوّل البنية القبلية التي أصبحت تهديدًا مباشرًا لوحدة الدولة وشرعية مؤسساتها. فالقبيلة في شكلها الراهن لم تعد مجرد إطار اجتماعي، بل تحولت إلى وسيلة ضغط ومصدر نفوذ يُستثمر في المجال السياسي والإداري.
إقرار الرئيس بخطورة هذا الواقع يمثل اعترافًا ضمنيًا بفشل سياسات سابقة كرّست الزبونية، وحولت الدولة إلى ساحة لتقاسم النفوذ بين الزعامات القبلية. ومن هنا، فإن الخطاب يشكل — في بعده الرمزي — لحظة نقد ذاتي للنظام، وفرصة لإعادة التأسيس على قواعد جديدة.

ثانيًا: حدود الإرادة السياسية والإكراهات الواقعية

لا يمكن تجاهل أن الرئيس محاط — كما أشار العديد من المراقبين — بنخبة قبلية ترى في السلطة وسيلة لترسيخ مكانتها الاجتماعية. وهؤلاء يشكلون العقبة الأكبر أمام أي مشروع إصلاحي يسعى إلى بناء دولة القانون.
لكنّ المؤشرات الراهنة توحي بوجود هامش من الأمل، فالرئيس يعيش مأموريته الأخيرة، ما قد يحرره من الضغوط الانتخابية ويتيح له اتخاذ قرارات جريئة، من شأنها إعادة التوازن بين الدولة والمجتمع. غير أن ذلك يتطلب إرادة سياسية قوية، واستعدادًا لتحمل كلفة القطيعة مع قوى النفوذ التقليدية.

ثالثًا: من الدولة القبلية إلى دولة المواطنة

إن الانتقال من منطق القبيلة إلى منطق الدولة يمر عبر إصلاح عميق في البنية الإدارية والسياسية. ولعلّ الخطوة الأولى في هذا المسار هي تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة الكفاءة والنزاهة، تقطع نهائيًا مع الولاءات القبلية وتضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
إن الاعتماد على الكفاءة بدلاً من الانتماء سيعيد الثقة في مؤسسات الدولة، ويمنح الرئيس فرصة لتخليد اسمه في سجل من أسسوا لتحول نوعي في بنية النظام السياسي الموريتاني.

الخاتمة

يمكن القول إن خطاب انبيكت لحواش يمثل منعطفًا رمزيًا في علاقة الدولة بالقبيلة، لكنه يظلّ مجرد إعلان نوايا ما لم يُترجم إلى سياسات عملية. فالمجتمع الموريتاني يعيش اليوم مرحلة مفصلية تتطلب جرأة في كسر حلقة الولاءات التقليدية، وإرادة في بناء دولة تقوم على المواطنة لا العصبية، وعلى العدل لا الوساطة.
إنّ تشكيل حكومة كفاءات مستقلة سيكون، بلا شك، أفضل هدية يمكن أن يقدّمها الرئيس لشعبه في ختام مساره السياسي، وخطوة كفيلة بغسل ما علق بالعهد من موجدة وخيبة، وإعادة الأمل في قيام دولة مدنية حديثة تحترم الإنسان وتكرّس سيادة القانون.

زر الذهاب إلى الأعلى