الفساد في موريتانيا… هندسة الانهيار من الداخل

“حين تتكرر الوجوه ذاتها في مشهد الخراب، فذلك يعني أن الفساد لم يكن خطأً، بل كان نظامًا للحكم.”
منذ أن استولى العسكر يون على السلطة في موريتانيا، أصبح الفساد جزءًا من النسيج السياسي والإداري، لا عرضًا طارئًا يمكن تجاوزه. فكل عهد جديد يبدأ بإعلان الحرب على الفساد، لكن النتائج تأتي دائمًا على عكس الشعارات، حتى غدا المواطن يدرك أن الخطاب الإصلاحي ليس سوى واجهة لتدوير منظومة قائمة على الولاء لا على الكفاءة.
الثروة المفرطة التي راكمها كبار المسؤولين وأقاربهم من المورّدين وأصحاب تراخيص الصيد، تقف شاهدًا على أن التهمة ليست مجرد خصومة سياسية. فبينما تتضاعف الميزانيات وتنتفخ الأرقام في بنود الصرف العام، تزداد أسعار المواد الأساسية، ويهبط مستوى المعيشة، ويغيب الأثر الحقيقي لأي إصلاح اقتصادي مزعوم.
الفساد كمنهج دولة
انهار التعليم إلى حدٍّ يمكن القول معه إنه لم يعد نظامًا بل أطلال مؤسسة. أصبح بيع الشهادات واقعًا، وشراء الامتحانات علنًا: بكالوريا بمائة وعشرين ألف أوقية، ووظيفة “مدرس” بمائة وخمسين ألفًا، والأستاذ بمائتين. حتى مقعد في مدرسة تكوين المعلمين بيع يومًا بـ”جذعة من البقر”!
وفي المقابل، تهاوت منظومة الصحة إلى مستوى مخيف، وامتد الفساد إلى الدواء، والمخدرات، والجمركة، والوثائق العقارية، في مشهد يعكس عمق الأزمة الأخلاقية قبل أن يكون أزمة إدارة.
من يتقن الهدم لا يصلح للبناء
حين تولّى الرئيس الحالي الحكم، بشّر الناس بعهد جديد من المحاسبة، وبدأ بتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق مع الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وأكثر من ثلاثمائة من معاونيه.
لكن المسار سرعان ما انقلب إلى نسخة مكرّرة من الماضي: بُرّئت الغالبية، وعاد معظم الوزراء الذين كانوا جزءًا من منظومة عزيز إلى المشهد وكأن شيئًا لم يكن.
أليس في ذلك استهانة بذاكرة الشعب؟
إن القول إن الرئيس السابق وحده فاسد دون وزرائه لا يستقيم عقلاً ولا منطقًا. فإما أنهم كانوا شركاء فسكتوا طمعًا أو خوفًا، وإما أنهم لم يدركوا، فذلك دليل على عجزهم. وفي الحالتين، لا يُنتظر منهم إصلاح ما أفسدوه.
ولعل القصة التي تُروى عن أحد خلفاء بني العباس تصلح هنا تمامًا: فقد استدعى الخليفة مهندسًا لهدم قصره القديم وبنائه من جديد، فاستبدل المهندس عماله بعد الهدم. وحين سُئل عن السبب قال: “من يتقن الهدم لا يصلح للبناء.”
وهكذا هو حال نخب الفساد في بلادنا: أتقنوا هدم الدولة، لكنهم لا يعرفون كيف يعيدون بناءها.
تقرير محكمة الحسابات… ثم ماذا؟
حين صدر تقرير محكمة الحسابات الأخير، استبشر الناس بومضة أمل. لكنه ما لبث أن انطفأ حين سعى رئيس المحكمة إلى التخفيف من حدته، ليتبعه الناطق باسم الحكومة بالأسلوب ذاته. ثم تم استدعاء ثلاثين شخصًا، بينهم عشرون أقيلوا من وظائفهم.
غير أن الرأي العام أدرك سريعًا أن العدالة الانتقائية لا تصلح دواءً لداءٍ بنيوي. فالتهم سقطت عن بعض، لا لأنهم أبرياء، بل لأن التقرير تجنّب ذكر من يفترض أن يشملهم.
وهكذا يتأكد من جديد أن الفساد في موريتانيا ليس مجرد انحراف أفراد، بل نظام محكم يستمد بقاءه من شبكة المصالح، ومن غياب الطبقة الوسطى التي طالما كانت صمام الأمان الاجتماعي.
حمادي سيدي محمد آباتي






