ثقافة

الغرب وإعادة تشكيل الخريطة العربية: حقائق للتاريخ ورسائل للمستقبل

1 ـ من سايكس بيكو إلى “الشرق الأوسط الجديد”

لم يكن العالم العربي والإسلامي قبل قرن من الزمن على الشكل الذي نراه اليوم. بل كان فضاءً مفتوحاً من قبائل وعشائر وأقاليم مترابطة تجمعها الثقافة واللغة والدين، وتربطها المصالح المشتركة، دون حدود مرسومة على الورق.
ثم جاءت بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، لتصوغ اتفاقية سايكس ـ بيكو (1916)، التي رسمت أول خريطة حديثة للمنطقة. الهدف لم يكن بناء دول وطنية، بل تفكيك جسد الأمة إلى كيانات صغيرة متناحرة، يسهل التحكم في مواردها وتوجيه مساراتها السياسية.
لم يكن هذا سوى التمهيد لولادة “الكيان الصهيوني” الذي لن يقوم إلا على أنقاض الأمة الممزقة.

2 ـ الدور الأمريكي ومرحلة “التقطيع الجديد”

اليوم، وبعد قرن من تلك المؤامرة، لم تعد أمريكا والكيان الصهيوني بحاجة فقط إلى الحفاظ على التقسيمات القديمة، بل باتا يدفعان نحو خريطة جديدة تخدم مراحل السيطرة المقبلة.
مشاريع مثل “الشرق الأوسط الكبير” و”صفقة القرن” ليست سوى امتداد لتلك العقلية:

إعادة تشكيل حدود وولاءات.

تحويل الصراعات الداخلية إلى حروب طائفية وعرقية.

إضعاف الدول حتى تصبح “حُرّاساً جدد” للمصالح الغربية.

3 ـ الدرس الأوروبي: الشعوب حين تنتفض

بينما تُساق شعوبنا إلى الاحتراب الداخلي، نرى شعوب أوروبا تنتفض ضد حكوماتها نصرةً للإنسانية في فلسطين. هذا يضع أمامنا درساً واضحاً: حين تتحرك الشعوب بوعي، تجبر الأنظمة على مراجعة مواقفها، حتى ولو كانت تلك الأنظمة جزءاً من آلة الهيمنة الغربية.

4 ـ موريتانيا مثالاً: صناعة الزعامات والولاءات

لم يقتصر مكر الاستعمار على المشرق العربي. ففي موريتانيا مثلاً، خططت فرنسا منذ البداية لتمكين عدد من الأسر الموالية لها، لتكون الوريث الشرعي للسلطة.
هذه الأسر التي تقارب الستين، ومعها لاحقاً أكثر من سبعمائة عميل أُضيفوا بمرور العقود، ظلوا يتلقون امتيازات ورواتب مقابل التحكم في الجماهير عبر التجهيل والتفقير.
وفي ظل هذا المناخ، برزت شخصيات “مصنوعة” مثل بيرام ولد الداه اعبيدي، الذي يستغل معاناة بعض الفئات عبر خطاب تعبوي يقوم على الكراهية والتفرقة. لكنه في جوهره لا يسعى إلى تحرير المظلومين بقدر ما يخدم استمرار نفس النظام الذي صَنعه، ويستثمر فيه الغرب.
وهكذا، بدلاً من أن يتوحد المظلومون في جبهة واحدة، يتشتتون بين زعامات مصطنعة، فيستفيد الحاكم والراعي الخارجي معاً.

5 ـ الدرس للشعوب والحكومات العربية

للأنظمة: لا مستقبل لنظام يقوم على تحالف هش مع قوى خارجية، أو على زعامات مُفتعلة تُدار من الخارج. التجارب أثبتت أن “المستعمر الجديد” لا يحمي أحداً، بل يوظف الكل حتى يحين موعد التخلص منهم.

للشعوب: لا خلاص إلا بالوعي. حين تستوعب الجماهير حقيقة أن انقساماتها الداخلية مجرد أدوات في مشروع أكبر، فإنها ستدرك أن وحدتها هي السلاح الوحيد لمواجهة الهيمنة.

خاتمة

لقد علّمنا التاريخ أن الغرب لا يكتفي بصناعة الخرائط، بل يُعيد رسمها كلما استدعت مصالحه. وإن لم نقرأ نحن خرائطنا بأعيننا، فسوف يقرأها الآخرون بالنيابة عنا، ثم يفرضونها علينا بالقوة.
المطلوب اليوم ليس فقط خطاباً عاطفياً، بل إرادة سياسية لدى الحكومات ووعي شعبي يقظ قادر على إفشال مشاريع “التقطيع الجديد”، وإحياء روح التضامن العربي ـ الإسلامي في مواجهة أخطر تحديات القرن.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى