العُزلةُ كمرآة للهُوية: من “متاهة العُزلة” إلى لوكليزيو

لطالما كان الماضيُ موطنًا دائمًا للبحث عن الذات، ومحاولة لا تنقطع لمدّ جسور التواصل مع الآخر، مهما تباعدت المسافاتُ الزمنية والثقافية. وفي هذا السياق، يُعَدُّ كتاب “متاهة العُزلة” للمفكر المكسيكي أوكتافي٧و باث، نصًا تأسيسيًّا وجوديًّا، ومرآةً فكرية عميقة للهُوية المكسيكية، إذ يغوص في تحليل الشخصية الفردية والانتماء الوطني، كاشفًا عن التراكمات الثقافية والنفسية التي خلّفها الاستعمار، والتي لا تزال تُملي على المكسيك تفاعلاتها المعقدة مع ذاتها ومع العالم.
ويعكس الكتاب ـ بمنهجه التأملي والتحليلي ـ محنة العُزلة الثقافية التي عانى منها المجتمع المكسيكي، ويفضح آثار الانقطاع الحضاري بعد الاستعمار، في مقابل سعيٍ دائمٍ لاستعادة الاتصال بالتاريخ، والانخراط الواعي في الحاضر الغني بثقافته وإرثه المتشعب.
وهكذا، لا يَسْلم الإنسان في لحظات حياته المفصلية من الإحساس بالانفصال عن محيطه، وشعور بالاغتراب عن ذاته وعن سيرورة الحضارة. غير أنّ هذا الاغتراب، لا يمكن تجاوزه إلا بإيقاظ الوعي بالذات، والتصالح مع الجذور، دون السعي لتغيير الجلد أو نفي الأصل، بل بالاندماج المتزن مع معطيات العصر.
في منحى مشابه، يُجَسِّد الكاتب الفرنسي جان ماري غوستاف لوكليزيو (الحائز على نوبل 2008) تجربة فريدة في تعدد الهُويات وتراكب الانتماءات. فقد وُلد في مدينة نيس الفرنسية، لأب بريطاني عمل طبيبًا عسكريًّا في أفريقيا، وأم فرنسية تنحدر من جزر موريشيوس. وظلَّ الروائي على مدى عقود يبحث في التباس الهُوية والانتماء، متنقلًا بين ثقافتين، وموزَّعًا بين جنسية أمه الفرنسية وجنسية والده البريطانية، ما ولّد لديه شعورًا عميقًا بالتمزق والغربة.
رغم هذا، لم يكن لوكليزيو من أولئك الذين يهربون إلى الضوء، بل اختار الصمت والتأمل والعزلة، ورفض الظهور الإعلامي. فهو يرى أن الإنسان كائن مركب من مكتسبات ثقافية، وإرث عائلي، وتراكمات فكرية، وتجارب حياة متقلبة، واختيارات شخصية، وأحلام تتحقق أو تنهار.
وقد انعكست هذه الرؤية الوجودية في أدبه، فتميّز بإحساس إنساني عميق، ونزعة شعرية طافحة، وتجريب أدبي ممتع، جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين كبار الأدباء الفرنسيين المعاصرين، ويُعدُّ اليوم من أعظم الكُتّاب الفرنسيين الأحياء.
الكاتب : إبراهيم أبو عواد / بتصرف