العالم الحر بين وهم الأخلاق وضرورة الاعتراف بفلسطين

بقلم: حمادي سيدي محمد آباتي
في زمن تتعرّى فيه الشعارات، يقف ما يُسمّى بـ«العالم الحر» أمام اختبار أخلاقي حاسم. فالحرب على غزة لم تكتفِ بكشف حجم المأساة الإنسانية، بل عرّت الدعاية التي رُوِّج لها طويلاً عن أن إسرائيل تمارس «حقّها في الدفاع عن النفس». الصور الخارجة من تحت الأنقاض، لأطفال ونساء وكهول سُحقت أجسادهم تحت الركام، لم تترك للضمير الإنساني أي مساحة للمراوغة.
المستشفيات تُدمّر، والمدارس تُقصف، والأطباء يُستهدفون، بينما يكتفي الغرب الرسمي ببيانات «القلق» و«الدعوة إلى ضبط النفس». لكن الشعوب الأوروبية، التي كانت يوماً أسيرة سردية الإعلام الإسرائيلي، بدأت تدرك أن الإرهاب الحقيقي هو ما تمارسه آلة الاحتلال.
بداية التصدّع في الجدار الأوروبي
مواقف رئيس الوزراء الإسباني وبعض الحكومات الأوروبية، إلى جانب تحركات أمريكا اللاتينية، مثّلت أول شرخ حقيقي في جدار الصمت الغربي. فإسبانيا، التي أعلنت عن حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، أكدت أن ما يجري في غزة لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية. وفي أمريكا الجنوبية، خرجت بيانات رسمية من دول عدة تصف ما يحدث بأنه جرائم حرب، داعية إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة.
هذه المواقف لم تأتِ من فراغ، بل من وعي شعبي متزايد بأن إسرائيل فقدت شرعيتها الأخلاقية، وأنّ استمرار الاحتلال بات عبئاً على الضمير الإنساني الغربي قبل أن يكون مأساة فلسطينية.
خطة ترامب… إنقاذ صورة لا إنقاذ شعب
التحرك الأمريكي الأخير الذي أعيد تسويقه تحت اسم «خطة ترامب» لا يبدو أنه يسعى إلى حلّ جذري بقدر ما يهدف إلى إنقاذ صورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي. فالخطة تركّز على هدنة إنسانية وإطلاق رهائن، لكنها لا تطرح أي مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
إنها أشبه بمحاولة لتجميل وجه النظام الدولي أكثر من كونها مشروع سلام حقيقي. إذ كيف يمكن الحديث عن «مرحلة جديدة» بينما لم تُرفع الحصار، ولم يُعترف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره؟
دولة فلسطينية: منطق التاريخ وضرورة العدالة
المجتمع الدولي، إذا أراد أن يستعيد شيئاً من مصداقيته، فعليه أن٧ يتوقف عن إدارة الأزمة وأن يبدأ في صناعة الحلّ. والحلّ لا يمكن أن يكون سوى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة، معترف بها من الأمم المتحدة والدول الكبرى، وقادرة على استقبال سفارات العالم وإدارة شؤونها بحرّية.
فمن دون كيان سيادي مستقل، ستبقى كل الهدنات محاولات مؤقتة لتأجيل الانفجار القادم، وستبقى المقاومة في موقع ردّ الفعل لا الفعل.
المقاومة على محكّ الحكم
من الطبيعي أن يُطرح السؤال: ماذا لو تولّت المقاومة إدارة الدولة؟
هنا يجب أن نتحرر من ثنائية «المقاوم الطيب» و«المقاوم الشرير». فالقضية ليست في الهوية الأيديولوجية بل في القدرة على بناء مؤسسات دولة مدنية، قادرة على فرض القانون وضمان الحقوق.
تجربة المقاومة في الحكم ستكون محكّاً تاريخياً: هل يمكن لمن حمل السلاح دفاعاً عن الأرض أن يحمل القلم لبناء الدولة؟ الإجابة رهن بالقدرة على الانتقال من منطق المعركة إلى منطق الدولة، ومن ثقافة الصراع إلى ثقافة المؤسسات.
العالم الحر أمام لحظة الحقيقة
العالم الذي يفاخر بمنظومات حقوق الإنسان والديمقراطية لم يعد يملك رفاهية الصمت. فكل يوم يمرّ من دون اعتراف حقيقي بفلسطين، هو يوم جديد يسقط فيه قناع «الحرية» و«العدالة» الذي يتغنى به الغرب.
ما تحتاجه الإنسانية اليوم ليس خطة إنقاذ لصورة إسرائيل، بل خطة إنقاذ لضمير العالم. والاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة هو الخطوة الأولى في هذا الطريق الطويل نحو العدالة.