رأي آخر

الطاعة والولاء قبل العلم والكفاءة

في موريتانيا، حيث تنقلب الموازين وتُستبدل القيم، لا يُقاس النجاح ولا يُمنح التقدير بالكفاءة أو بالعلم، بل بمدى إتقان فن الطاعة وتقديم فروض الولاء. لقد باتت الثقافة السائدة تُكافئ من يحني رأسه لا من يرفع فكره، ومن يصفق للحاكم لا من يقترح الإصلاح، ومن يزايد في التزلف لا من يسدي النصيحة.

انقسمت النخبة الموريتانية إلى أربع طوائف، لا على أساس علم أو مشروع وطني، بل على أساس العلاقة مع السلطة:

الطائفة الأولى: النخبة الحاكمة التي تمسك بزمام الأمور، وتُحكم قبضتها على مفاصل الدولة ومقدراتها. طغت المصالح الشخصية على خطاباتها، وغابت عنها أي رؤية تنموية جادة، بل أصبحت تتغذى على الولاء وتتعامل مع الوطن كغنيمة موزعة بين المقربين.

الطائفة الثانية: نخبة المنافقين و”المظليين الجدد”، أولئك الذين يتسلقون سلالم التملق ويجيدون تقديم الطاعة مقابل الامتيازات. هؤلاء لا ينتجون فكرا ولا يقدمون قيمة، لكنهم يحصدون الأراضي في الأحياء الراقية حيث يبلغ سعر المتر الواحد ما يفوق سعر هكتار في إسبانيا أو المغرب، أو يُمنحون صفقات رغم الإفلاس الفاضح. وغالبًا ما تُباع تلك الصفقات لاحقًا لأطراف أكثر خبرة في التحايل.

ثم أضيف إلى هذا المشهد عنصر ثراء ملوث: نخبة الاتجار بأرواح المواطنين، من خلال ترويج الأدوية المزورة، وحبوب الهلوسة، والمخدرات. لم تعد الصحة ولا حياة الناس خطاً أحمر، بل أصبحت سلعة في بورصة الفساد.

الطائفة الثالثة: أولئك الذين يرفعون لافتات المظالم التاريخية، بعضهم تم احتواؤه بشراء نضاله، والبعض الآخر، الأقل حنكة، أصبح أداة ضغط بأجندات خارجية. يتخبط هؤلاء بين خطاب الضحية وخطاب المساومة، ويفقدون تدريجياً ثقة قواعدهم كلما زاد منسوب الارتهان والتذبذب.

أما الطائفة الرابعة، فهي نخبة الوطنيين الحقيقيين، أولئك الذين لم يخضعوا ولم يبعوا أقلامهم، ولم يهادنوا الفساد. يرزحون في الظل، مُحاصرين بالإقصاء، لكنهم لا يتوقفون عن الكتابة والتحذير، ويشكلون آخر حصون الضمير الوطني. هؤلاء لا يملكون غير الكلمة، ولا يتحركون إلا بوحي من شعورهم العميق بالمسؤولية.

في ظل هذا الانحدار القيمي، أصبحت أصوات الغوغاء أعلى من أصوات العقلاء، وارتفعت حناجر الهراء فوق صوت الوطن الجريح. والمفارقة أن من يسيرون عكس التيار هم من يُتهمون بالتشويش، بينما تُرفع صور المتزلفين كقدوة.

هنا، نوجه نداءنا إلى الرئيس محمد ولد الغزواني، الرجل الذي عُرف بالهدوء والأخلاق، ونطلب منه وقفة تأمل لفهم نوايا المحيطين به. فهو رجل عسكري يدرك تماماً أن “المظلي” حين يسقط في أرض، فهو إما قاصد احتلالها أو تدميرها. وما نراه اليوم في هذا البلد يشبه حالة الغزو والتخريب معًا، حيث لم يبق من مؤسسات الدولة إلا قشورها.

نحن نعيش لحظة مشابهة لمشهد الغزالة التي داهمها المخاض عند مدخل الغابة، بينما صوب الصياد سهمه نحوها، وتربص بها أسد جائع، واندلع حريق من خلفها، والمطر يوشك أن يهطل… لم يكن أمامها إلا معجزة.

وأُتيحت المعجزة: أخطأ السهم وأصاب الأسد، وأطفأ المطر الحريق. فهل يُرسل الله لنا مطره السياسي في وقت اشتدت فيه النيران، وضاقت الخيارات، وفُقدت الثقة؟

لقد آن أوان مراجعة شاملة، تردّ الاعتبار للكفاءة لا الطاعة، للعلم لا الولاء، للضمير لا الصفقة.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى