الصورة كأداة في الصراع: كيف استخدمت حماس مشاهد تبادل الأسرى لإعادة تشكيل السردية الإعلامية

في لحظة غير متوقعة، وأمام عدسات الكاميرات، انحنى أحد الأسرى الإسرائيليين ليقبل رؤوس مقاتلي كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، الذين كانوا يسلمونه إلى الصليب الأحمر. أثار هذا المشهد عاصفة من الجدل، حيث التقطته وسائل الإعلام العالمية كصورة تحمل أبعادًا تتجاوز الحدث ذاته. صورة تُظهر جنديًا مهزومًا ورمزًا لقوة حريصة على إظهار نفسها بشكل إنساني، ورسالة مبطنة لإعادة تشكيل السردية حول طبيعة الصراع.
ولم يكن هذا المشهد استثناءً، بل جاء ضمن سلسلة من المشاهد التي تم تنسيقها بعناية من قبل حركة حماس خلال عمليات تبادل الأسرى الأخيرة. من اللحظة الأولى لعمليات التسليم، كان مقاتلو حماس يظهرون في زي عسكري منظم، حاملين أسلحتهم بشكل منضبط، وفي بعض الأحيان يقدمون الماء والتمر للأسرى الإسرائيليين قبل إطلاق سراحهم. هذه المشاهد لم تكن مجرد نقل للأحداث، بل كانت رسائل إعلامية مدروسة، تهدف إلى الوصول إلى الجماهير الفلسطينية، والعدسات الغربية، وصناع القرار في إسرائيل.
لطالما كانت الصورة أداة قوية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم أن الرأي الغربي كان يميل إلى تصوير المشهد من خلال العدسة الإسرائيلية. فقد احتكرت إسرائيل لعقود السردية الإعلامية العالمية، مستخدمة وسائل الإعلام لنقل صورة “الإسرائيلي الضحية” و”الفلسطيني المعتدي”. ومع ذلك، أدركت حماس في السنوات الأخيرة أهمية كسر هذه الهيمنة البصرية عبر توظيف مشاهد التوثيق الميداني وفن بناء الرموز في لحظات حساسة، مثل تسليم الأسرى، وهو ما امتد إلى صور تغطية المعارك اليومية وصور المقاومة المستمرة.
أحد أبرز المشاهد التي رسخت في الذاكرة كانت لحظة تسليم الأسرى الإسرائيليين في مخيم النصيرات بقطاع غزة، حيث ظهر مقاتلو حماس يرافقون المحتجزين بهدوء، وهم يرتدون الزي الرسمي ويحملون أسلحتهم بطريقة توحي بالسيطرة دون تهديد مباشر. مشهد بدا وكأنه محاكاة لعروض الجيوش النظامية في عمليات تبادل الأسرى بين الدول، في محاولة واضحة لترسيخ صورة حماس ككيان منظم وقادر على فرض شروطه.
وفي مشاهد أخرى، اختارت حماس توثيق اللحظات الإنسانية، مثل تقديم الطعام والماء للأسرى قبل تسليمهم وإظهارهم يمشون بحرية دون قيود. هذه الصور استهدفت إرسال رسائل مزدوجة: إلى الداخل الفلسطيني لتأكيد “أخلاقية المقاومة”، وإلى الخارج لنفي الاتهامات الإسرائيلية بمحاولة تصويرها كمنظمة إرهابية.
على الجانب الآخر، أثارت هذه الصور ردود فعل غاضبة في إسرائيل، حيث سارع الإعلام الإسرائيلي إلى وصفها بـ”إذلال” الأسرى، محاولًا تقديمها كدليل على “وحشية” حماس رغم عدم احتوائها على مشاهد عنف.
لكن المعضلة التي تواجهها إسرائيل لا تكمن في الصور نفسها فقط، بل في تأثيرها على جمهورها الداخلي. مشاهد الأسرى وهم يتصرفون بطمأنينة بين أيدي مقاتلي حماس تقوض سردية “الجيش الإسرائيلي الذي لا يُهزم” وتطرح تساؤلات عن قدرة حكومة نتنياهو على استعادة الأسرى بالقوة.
حماس تدرك أن الصراع مع إسرائيل ليس فقط عسكريًا، بل هو أيضًا صراع على الوعي والرأي العام. ولهذا السبب، أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الصور والرموز في توجيه رسائلها. بينما تعتمد إسرائيل على قوتها العسكرية والدعم الدبلوماسي الغربي، تراهن حماس على مشاهد معدة بعناية لتكون أكثر تأثيرًا من أي بيان سياسي.
قد يبدو المشهد الذي قبّل فيه أحد الأسرى رؤوس مقاتلي حماس لحظة عابرة، لكنه في عالم الإعلام الحربي يعادل نصرًا استراتيجيًا. لأن المعركة اليوم لم تعد تُحسم في ميادين القتال فقط، بل في مساحات الإنترنت وشاشات الأخبار. وهكذا تواصل حماس اللعب بذكاء في ميدان الصورة لتنافس جيش نتنياهو، ليس بالبندقية فقط، بل بالكاميرا أيضًا.