رأي آخر

الحوار.. منصة لتدوير العملاء أم نقاش وطني؟

هل يراد من الحوار الوطني تعليق التناقضات في مشهد إعلامي يُصنع خصيصًا لشرعنة كل من يُعاد تدويره؟ يبدو أن ما يُقدَّم اليوم تحت لافتة “الحوار” لا يعدو كونه نمطًا جديدًا لتدوير العملاء، وتلميع الوجوه التي فشلت أخلاقيًا أو ارتبطت بمشاريع غير وطنية.

في هذا السياق، تصبح السيادة والوطنية مجرد أدوات تمويه، تُستخدم لإعادة إدماج الفاسدين والعملاء السابقين داخل البنية الحاكمة. بل إن النظام يسعى جاهدًا لترسيخ معادلة خبيثة: الطاعة أولى من النزاهة، والولاء للسلطة أهم من الولاء للوطن. فالمطيع الأعمى يجد الحظوة، أما الوطني الجريء الذي يرفع صوته بالحق، فيُقصى ويُخوَّن.

وهنا يتجلى أحد أخطر الأساليب السياسية: التمويه الاستراتيجي داخل الخطاب العام. حيث يتم تزييف مفهوم السيادة وتحويله إلى غطاء لتحريك “قطع الشطرنج القديمة” في مواقع جديدة، دون محاسبة، بل بإعادة تدوير الرموز الملوثة في مشهدية مصطنعة تُطلب من الشعب أن يصفق لها.

تتسع هذه الاستراتيجية لتشمل التلاعب بالذاكرة الجمعية، عبر ضخ مشاهد متكررة لشخصيات كانت ممقوتة، تظهر فجأة تتحدث باسم الوطن، وتدّعي النضال والاستقامة. الأمر الذي يخلق حالة من الخلط الذهني المنظم، يُقلب فيها المفهوم رأسًا على عقب: من كان خائنًا يصبح رمزًا، ومن كان وطنيًا يُتهم بالتشويش أو التطرف.

بهذا الشكل، يتحول الحوار السياسي من ساحة للتقويم والمراجعة، إلى مسرح رمزي لإعادة إنتاج السلطة وإدماج المشبوهين داخل بيئة خاضعة للرقابة والتوجيه، تُملي الخطوط الحمراء وتُحدد مسبقًا من يمكنه الكلام ومن يجب أن يصمت.

في ظل هذا الواقع، تصبح السيادة نفسها رهينة عمليات تفكيك نفسي للمفاهيم، حيث تتحول المصطلحات من أدوات تحرر إلى وسائل استعباد ناعم. فالسيادة التي كان يفترض أن تُستخدم لمحاسبة الخونة، تُستخدم لحمايتهم وإعادة تلميعهم، باسم “الوحدة الوطنية” أو “العدالة التصالحية”.

إنها ليست مجرد أزمة خطاب، بل حرب على الإدراك، تُخاض داخل العقول قبل أن تُخاض في الميادين. ومع كل مشهد دعائي، وكل خطاب موجه، تتقلص المسافة بين الخيانة والوطنية، وتتآكل الحدود بين من خان ومن ادّعى الدفاع.

فهل نحن أمام حوار وطني حقًا، أم أمام هندسة مخابراتية ناعمة لإعادة تشكيل الوعي، وتدجين الشعب على التصفيق للمشهد، أياً كانت حقيقته؟

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى