الجغرافيا الصحراوية وصناعة الخضوع: قراءة في الجذر البنيوي لإستكانة الموريتاني للأنظمة الظالمة

كثيرًا ما يُطرح سؤال جوهري في النقاش السياسي الموريتاني: لماذا يستكين هذا الشعب لأنظمة فاسدة وظالمة لا تحترم كرامته ولا تطلعاته؟ لماذا لا ينفجر الغضب الجمعي رغم تراكم المظالم وتكرار الفشل؟ هذه الأسئلة، وإن بدت سياسية في ظاهرها، فإن جوابها قد يكون في الجغرافيا قبل السياسة، وفي البيئة الطبيعية قبل الأيديولوجيا.
يرى ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، أن الجغرافيا تصنع التاريخ، بل وتؤسس لنمط معين من الاجتماع البشري، فـ”أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر”، لكنهم أيضًا أقرب إلى الخضوع والاستكانة، لأنهم اعتادوا على مواجهة قسوة الطبيعة لا قسوة الحاكم. وقد سار الوردي على هذا الدرب، مضيفًا أن الإنسان يتطبع مع بيئته حتى يصعب عليه التمرد عليها.
موريتانيا، ككيان اجتماعي وتاريخي، نشأت في بيئة صحراوية قاسية، تعلم فيها الإنسان كيف ينجو لا كيف يثور، وكيف يتكيف لا كيف يغيّر. فالصحراء لا تُقاوم بل يُتأقلم معها، ولا تَرحم من يحاول فرض منطقه عليها. هذا الطبع الصحراوي أورث الموريتاني – دون وعي – سلوكًا جبريًا استسلاميًا تجاه السلطة، لا ينبع من قناعة بقداسة الحاكم بل من تكيّف عميق مع منطق “الغالب”، تمامًا كما يتكيف مع شظف العيش وهبوب الرمال.
وحين جاء الاستعمار الفرنسي في لحظة تاريخية بلغت فيها الفوضى الداخلية ذروتها، وجد فراغًا سلطويًا سهّل عليه الدخول، بل وجد من “العلماء” والوجهاء من برروا وجوده وهادنوه، ليس عن خيانة فحسب، بل عن فهم مشوش لـ”حتمية الغالب”، وهي فلسفة جبرية لا تزال تتكرر في خطاب كثير من الفاعلين التقليديين.
هذا الخضوع ليس قدرًا بيولوجيًا ولا مصيرًا مقدرًا لا فكاك منه، بل هو نتيجة لتراكم نفسي-ثقافي تشكل عبر قرون من العيش في بيئة تُنتج الاتكال وتهمّش التمرد، وتجعل الفرد يرى في السلطة قدرًا لا يُرد، لا عقدًا يمكن التفاوض عليه أو نقضه.
ولذلك، فإن أي مشروع نهضوي في موريتانيا يجب أن يبدأ من الداخل، من العقل الجمعي، من تفكيك هذا الجذر النفسي العميق الذي يجعلنا نبرر الاستبداد كما نبرر قسوة الجفاف. علينا أن نراجع مفهوم السلطة، لا بوصفها قدَرا بل بوصفها وظيفة عمومية قابلة للمساءلة.
إن التحرر من الاستبداد يبدأ من كسر القيد النفسي، وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، على أساس الحقوق لا التبعية، وعلى أساس العقد لا الولاء. ولا يمكن أن يتم ذلك دون ثورة فكرية تحفر في العمق، وتواجه الموروث الجبري الذي ألبس الاستكانة ثوب الحكمة، والذل قناع التواضع.
حماديىآ سيدي محمد آباتي