التعليم الموريتاني بين التعريب والازدواجية: قراءة في إشكالية الهوية الثقافية

لقد كان التعليم في موريتانيا منذ الاستقلال مرآةً تعكسُ صراعَ الهوية وتوجّهات النخب الحاكمة أكثر مما تعكس حاجات المجتمع الحقيقية. فبدل أن يكون وسيلةً لتوحيد الأجيال وصناعة الإنسان الموريتاني الجامع بين الأصالة والانفتاح، صار مجالاً للتجريب المستمر، تارةً تحت شعار “التحديث”، وتارةً باسم “الانسجام الوطني”، فيما ظلّ المتعلم هو الضحية الأولى لكل تلك التحولات غير المدروسة.
إنّ قضية التعريب ليست مجرد شعار لغوي، بل هي مشروع حضاري يرومُ استعادة الذات وتثبيت الشخصية الوطنية في عالمٍ تتنازع فيه الثقافات. غير أن ذلك لا يعني الانغلاق أو رفض الآخر، بل يعني أن تكون العربية وعاءً للعلم والتفكير، وأن تكون اللغات الأجنبية أدواتِ تفتحٍ واتصالٍ لا أدواتِ تبعيةٍ واغتراب.
ولعلّ من أبرز التحديات التي تواجه التعليم الموريتاني اليوم ضعفُ الرؤية الإستراتيجية الجامعة، التي توفّق بين الهوية والانفتاح، وتُخرج السياسات التعليمية من دائرة الارتجال السياسي إلى رحابة التخطيط الوطني المستدام. فالإصلاح الحقيقي ليس في تبديل لغة التدريس أو تغيير المناهج من حينٍ لآخر، بل في بناء فلسفة تربوية تنطلق من واقع المجتمع وتستشرف مستقبله.
إنّ الأمم لا تُبنى بقراراتٍ مرتجلة، بل برؤيةٍ حضاريةٍ تتكامل فيها اللغة مع الثقافة، والتربية مع التنمية. وما لم يتحرّر التعليم من التجاذبات الأيديولوجية والضغوط السياسية، فسيظلّ الإصلاح شعارًا يتكرّر كل عقدٍ من الزمن دون أن يغيّر من جوهر الأزمة شيئًا.
خاتمة
يبقى التعليم في موريتانيا مرآةً صادقة لما نريده لأنفسنا من هويةٍ ومستقبل. فإن نحن جعلناه منبتًا للأصالة ومعبَرًا نحو الحداثة، استقام لنا الطريق، وتوحّد وجدان الأمة حول لغةٍ تُعبّر عن روحها، وثقافةٍ تنفتح على العالم دون أن تذوب فيه.
أما إن ظلّ رهينَ التجاذب بين المفرنِسين والمعرّبين، فسيظلّ جيلٌ بأكمله يتلمّس ذاته بين لغتين، وثقافتين، وانتماءين متنافرين.
إنّ الإصلاح الحقّ ليس في تبديل الحروف، بل في تهذيب العقول، وتحرير الإرادة، وإيماننا بأنّ لغةَ الأمة ليست مجرّد أداةٍ للتعليم، بل هي وطنٌ يسكن الضمير، ومن فقدَ لغته فقدَ طريقَه إلى المستقبل.
الأستاذ: محمد محمود العيل.