البقاع اللبناني في قبضة الجفاف: المزارعون بين مطر شحيح وتخلي الدولة

على امتداد سهل البقاع، حيث كانت خضرة الأرض تعانق زرقة السماء، يعيش المزارع اللبناني اليوم واحدة من أقسى المواسم الزراعية في تاريخه الحديث، وسط أزمة مناخية واقتصادية خانقة، تترافق مع غياب شبه تام للدعم الرسمي. لم تعد السماء تفيض بالغيث، ولا الدولة تمد يد العون.
وفي ظل هذا الواقع المأزوم، جاءت الضريبة المفروضة على مادة المازوت لتزيد من الأعباء وتُفاقم من كلفة الإنتاج، ما دفع العديد من المزارعين إلى تقليص مساحات الزراعة أو التخلي عنها بالكامل.
ففي الماضي، كانت الأمطار تروي الأرض، أما اليوم فقد أصبح العرق وحده يرويها، بعدما ارتفعت تكلفة الري من 10% إلى نحو 30% من إجمالي النفقات، وهو ما شكّل عبئًا إضافيًا على المزارعين الذين يكافحون من أجل البقاء في ظل الانهيار المتسارع.
موسم تحت القصف والجفاف
رئيس تجمع مزارعي وفلاحي البقاع، إبراهيم الترشيشي، وصف في حديث للجزيرة نت الواقع الزراعي بـ”السلسلة المتشابكة من الأزمات”، مشيرًا إلى أن الموسم الزراعي بدأ هذا العام تحت وابل القصف، حيث عاش المزارعون 66 يومًا من الحرب، تلاها جفاف قاسٍ قضى على ما تبقى من أمل بمحصول جيد.
وأوضح أن معدلات الأمطار هذا العام سجّلت انخفاضًا تاريخيًا، إذ لم تتجاوز 230 ملم، مقارنة بالمعدل الطبيعي الذي يتراوح بين 600 و625 ملم، ما أدى إلى خسائر فادحة: 15% من المزارعين فقدوا محاصيلهم كليًا، فيما لم يتمكن نصفهم من جني سوى نصف الإنتاج المعتاد.
قفزة في كلفة الري وانهيار في الإنتاج
وأضاف الترشيشي أن تكلفة الري ارتفعت من 7% إلى أكثر من 30% من مجمل تكاليف الإنتاج، مشيرًا إلى أن هذه القفزة غير المسبوقة تشكّل تهديدًا حقيقيًا لاستمرارية الزراعة، لا سيما في ظل الغياب التام للدعم الحكومي.
محصول القمح كان من أكثر المتضررين، إذ راهن المزارعون على موسم شتاء متأخر، لكن شهور يناير حتى أبريل مرت دون غيث، ما أدى إلى تراجع كبير في إنتاج الحبوب والأشجار المثمرة على حد سواء.
ووفق الترشيشي، فإن بساتين عمرها عشرات السنين باتت مهددة بالموت، وهو ما لا يمكن تعويضه بسهولة. كما أن تقلص المساحات المزروعة سيؤدي حتما إلى تراجع الإنتاج وارتفاع الأسعار، “فالغلاء ليس نتيجة جشع، بل نتيجة ندرة المعروض وارتفاع الكلفة”، مستشهدًا بسعر الكرز الذي بلغ 20 دولارًا للكيلوغرام الواحد.
التصدير في مأزق والأسواق راكدة
وأشار الترشيشي إلى استمرار إغلاق الطريق البري إلى الدول العربية، الذي يشكّل شريانًا رئيسيًا لتصريف المنتجات الزراعية، لا سيما البطاطا التي يتوجب تصدير نحو 200 ألف طن منها سنويًا. ورغم اقتراح المزارعين حلاً يقضي بنقل البضائع إلى الحدود الأردنية أو السعودية ومن ثم إعادة تحميلها كما يفعل السوريون، لم يصدر أي رد رسمي من الدولة اللبنانية.
أما التصدير البحري، فأصبح خيارًا شبه مستحيل بعد ارتفاع تكلفة الشحن من 1800 إلى أكثر من 5500 دولار للحاوية، ما يجعل المنتجات اللبنانية غير قادرة على منافسة السلع القادمة من دول مثل مصر وسوريا وباكستان.
الدولة غائبة… والنداء مستمر
في ختام حديثه، حمّل الترشيشي الدولة اللبنانية مسؤولية غياب الخطط الاستراتيجية لمواجهة الجفاف، منتقدًا تقاعسها في إنشاء السدود وتخزين مياه الشتاء، وقال بأسى: “عندما تفيض السيول نصرخ، بينما كان يجب أن نخزنها قبل أن تضيع… نحتاج إلى دعم حقيقي وليس شكليًا”.
كما لفت إلى أن مؤسسة “إيدال”، التي كانت توفر دعمًا فعليًا، باتت تعتمد اليوم سعر صرف لا يعكس الواقع الاقتصادي، إذ لا يزال يُحسب على أساس 1500 ليرة للدولار، فيما يتجاوز سعره في السوق 60 ألفًا.
موسم كارثي وتهديد للأمن الغذائي
من جهته، أكد المزارع حمزة الموسوي أن الموسم الحالي هو “الأسوأ منذ سنوات”، مشيرًا إلى أن العديد من آبار المياه قد جفّت، ما اضطرهم للاعتماد على مضخات تعمل بالمازوت المكلف، الذي ارتفع سعره بفعل الضرائب الجديدة.
وتوقّع الموسوي أن تصل نسبة الأراضي غير المزروعة هذا الصيف إلى نحو 70%، محذرًا من تداعيات خطيرة على الأمن الغذائي في البلاد، خصوصًا في ظل غياب قنوات تسويق فعالة، وتراجع أسعار المحاصيل في الأسواق رغم الارتفاع الكبير في تكاليف الإنتاج.
واختتم حديثه قائلاً: “المزارع يواجه الانهيار وحيدًا. لا خطة إنقاذ، لا دعم حقيقي، ولا حتى من يسمع النداء”.
نداء أخير للدولة
وفي ظل هذه الأزمة الخانقة، وجّه المزارع حسن نداءً صريحًا إلى الدولة اللبنانية داعيًا إلى اتخاذ إجراءات عاجلة لدعم المزارعين الذين يقفون اليوم على شفير الانهيار، مطالبًا برفع أسعار المحاصيل الأساسية لتتناسب مع كلفة الإنتاج المرتفعة.
وقال: “الزراعة ليست مجرد قطاع ثانوي، بل هي ركيزة حيوية في الاقتصاد اللبناني، وتوفّر آلاف فرص العمل. لا يجوز تركها تتهاوى بهذه الطريقة”.