الاقتصاد التركي بين مؤشرات التحسن النقدي وتباطؤ النمو

يمر الاقتصاد التركي بمرحلة دقيقة تتقاطع فيها بوادر التحسن في المؤشرات النقدية مع تباطؤ واضح في وتيرة النمو الاقتصادي. ففي حين بدأت معدلات التضخم تتراجع تدريجيًا، تواصل الحكومة التمسك بسياسة نقدية صارمة تهدف إلى ترسيخ الاستقرار المالي وضبط الأسعار.
وتعتمد أنقرة على برنامج اقتصادي طويل الأمد يوازن بين ضبط الأسواق وتحفيز النشاط الإنتاجي، مع التركيز على دعم فرص التوظيف والاستثمار لتفادي الدخول في ركود اقتصادي واسع النطاق.
انخفاض التضخم وتعزيز الثقة الحكومية
أعلنت هيئة الإحصاء التركية أن معدل التضخم السنوي تراجع إلى 37.9% خلال شهر أبريل/نيسان الماضي، مقارنة بـ38.1% في مارس/آذار، مسجلاً أدنى مستوياته منذ ديسمبر/كانون الأول 2021. ورغم استمرار الضغوط السعرية، فإن التضخم الشهري بلغ 3%، وهو أقل من التوقعات.
هذه النتائج دعمت موقف الحكومة في مواصلة سياساتها النقدية المتشددة التي بدأ تطبيقها منتصف عام 2023. وفي هذا السياق، صرح وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك بأن البرنامج الاقتصادي يسير في الاتجاه الصحيح، متوقعًا انخفاض التضخم إلى ما دون 30% بحلول نهاية عام 2025، خاصة بعد انتهاء العمل بقانون سقف الإيجارات في يوليو/تموز المقبل.
وأشار شيمشك إلى أن التراجع المحدود في قيمة الليرة التركية لم يكن له أثر كبير على الأسعار، بفضل تراجع الطلب المحلي، مما قلّل من انتقال تقلبات سعر الصرف إلى التضخم.
نمو قوي في قطاع التصدير
شهد قطاع التصدير أداءً لافتًا، حيث أعلن وزير التجارة عمر بولات أن قيمة الصادرات التركية بلغت 20.9 مليار دولار في أبريل الماضي، بزيادة سنوية قدرها 8.5%. وارتفع إجمالي الصادرات السنوية المتراكمة إلى 265 مليار دولار، محققًا رقمًا قياسيًا جديدًا.
تباين التوقعات الدولية
ورغم التفاؤل الرسمي، أظهر صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في أبريل الماضي تحفظًا في توقعاته، محافظًا على تقديراته لنمو الاقتصاد التركي عند 2.7% لعام 2025، مقارنة بالتقديرات الحكومية التي تتحدث عن 4%. كما توقع الصندوق انخفاض التضخم إلى نحو 24%، بشرط استمرار السياسات النقدية والمالية المتشددة.
وبيّنت بيانات معهد الإحصاء التركي أن الاقتصاد نما بنسبة 3.2% خلال عام 2024، مدعومًا بنمو فصلي بنسبة 1.7% في الربع الأخير من العام، منهياً بذلك فترة ركود تقني شهدها منتصف العام نفسه.
سياسة نقدية صارمة وتدخل مباشر
منذ منتصف 2023، رفع البنك المركزي التركي سعر الفائدة الرئيسي من 8.5% إلى 50% بحلول مارس 2024، في محاولة للحد من التضخم الذي تجاوز سابقًا حاجز الـ70%. وفي خطوة مفاجئة للأسواق، رفع البنك سعر الفائدة مجددًا بـ350 نقطة أساس ليصل إلى 46%، مؤكداً عزمه على مواجهة التضخم والتقلبات المالية.
كما ضخت السلطات أكثر من 50 مليار دولار من الاحتياطيات لدعم استقرار سعر الصرف، مما ساهم في تعزيز الثقة بالسياسة الاقتصادية وتخفيف التقلبات.
التركيز على الإنتاج المحلي والتكنولوجيا
تركّز الحكومة في رؤيتها الاقتصادية على دعم قطاعي التكنولوجيا والصناعة باعتبارهما مفتاحًا لتعزيز النمو وخلق فرص عمل وتقليل الاعتماد على الواردات. وأكد الوزير شيمشك أن دعم هذه القطاعات سيُشكل ركيزة في مواجهة تباطؤ النمو، مشيرًا إلى نية الحكومة تعزيز التسهيلات الائتمانية للمصدّرين عبر البنك المركزي وبنك “إكسيم”.
وأوضح أن التشديد النقدي يسهم في تقليل الطلب على السلع المستوردة، ما يساهم في تحسين عجز الحساب الجاري من خلال دعم الإنتاج المحلي.
وبحسب بيانات البنك المركزي، بلغ العجز الجاري في فبراير نحو 4.4 مليارات دولار، فيما وصل إجمالي العجز في أول شهرين من العام إلى 8.4 مليارات دولار، و12.8 مليار دولار على أساس سنوي.
تساؤلات حول استدامة النمو
من جانبه، يرى الباحث الاقتصادي حقي إيرول جون أن ما تحقق حتى الآن لا يتعدى كونه تحكمًا نسبيًا في الأزمة وليس تجاوزًا فعليًا لها. وأوضح أن استمرار الاعتماد على السياسة النقدية وحدها دون إصلاحات هيكلية سيُبقي الاقتصاد في إطار الاستجابات قصيرة المدى، بدلًا من التأسيس لنمو مستدام.
كما أشار إلى أن الاستثمار في التصنيع والتكنولوجيا لن يحقق الأثر المنشود ما لم يُترجم إلى زيادة في الإنتاجية والقيمة المضافة.
تحوّل في مصادر النمو
ويرى المحلل الاقتصادي بلال بغيش أن الاقتصاد التركي يشهد تحولاً تدريجيًا في مصادر النمو، مع تركيز متزايد على التصدير وتقليل الاعتماد على الطلب المحلي. وأكد أن هذا التحول بدأ ينعكس إيجابيًا على عدد من المؤشرات الاقتصادية، مثل عجز الحساب الجاري ومعدلات التضخم.
لكنه حذّر من المخاطر الخارجية مثل التوترات الجيوسياسية والحروب التجارية، داعيًا إلى إدارتها بمرونة واستعداد دائم.