إسرائيل تسمح بدخول مساعدات إلى غزة تحت ضغط دولي متزايد وتحذيرات من مجاعة شاملة

أعلنت السلطات الإسرائيلية، صباح اليوم الأحد، السماح بدخول مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة عبر عمليات إسقاط جوي وممرات إنسانية مؤقتة، وذلك بعد أشهر من الحصار العسكري الكامل الذي أدى إلى شبه توقف في تدفق الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع المنكوب.
ويأتي هذا القرار في ظل تدهور غير مسبوق في الأوضاع المعيشية بغزة، وتصاعد الضغوط الدولية، وتحذيرات منظمات إغاثية من خطر وشيك لوقوع مجاعة جماعية.
ورغم أن هذا الإجراء يبدو إنسانيًا في ظاهره، إلا أنه يعكس حسابات سياسية واستراتيجية معقدة، تتعلق بمواقف إسرائيل الإقليمية والدولية، وتوازناتها العسكرية في حربها المستمرة على جبهات متعددة بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
ضغط دولي متصاعد
التحذيرات الدولية المتكررة من انتشار المجاعة في قطاع غزة كانت العامل الأبرز الذي دفع الحكومة الإسرائيلية إلى اتخاذ خطوة تكتيكية تتيح تدفقًا محدودًا للمساعدات.
فقد أصدرت الأمم المتحدة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومنظمة الصحة العالمية، إلى جانب أكثر من 200 منظمة دولية ومحلية، تقارير صادمة خلال الأسبوعين الماضيين، حذّرت فيها من انهيار شبه كامل في قدرة سكان غزة على الحصول على الغذاء والماء، خاصة في مناطق مثل دير البلح وخان يونس وجنوب مدينة غزة.
ونقلت شبكة “دويتشه فيله” عن مسؤول في برنامج الغذاء العالمي أن غزة تواجه “كارثة إنسانية مركبة”، مشيرًا إلى أن معدلات سوء التغذية لدى الأطفال ارتفعت بنسبة 300% منذ يونيو/حزيران، وأن مناطق واسعة لم تتلق أي إمدادات منذ أسابيع.
وفي هذا السياق، طالبت 25 دولة إسرائيل برفع فوري للقيود المفروضة على دخول المساعدات إلى غزة، مع رفض أي محاولة لتغيير ديموغرافي في الأراضي الفلسطينية. وأدانت هذه الدول التوزيع البطيء للمساعدات واستهداف المدنيين، داعية إلى فتح فوري وغير مشروط للمعابر.
من جهتها، اتهمت منظمة أوكسفام إسرائيل باستخدام الغذاء كسلاح في الحرب، معتبرة أن الحصار الشامل المستمر يشكل “جريمة ضد الإنسانية”.
وقد دفعت هذه التصريحات، التي حظيت بتغطية واسعة، عدة دول أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، إلى ممارسة ضغوط دبلوماسية مباشرة على تل أبيب، ملوّحة بإعادة النظر في الاتفاقات التجارية والعسكرية المشتركة.
وبحسب صحيفة فايننشال تايمز، حذر مسؤولون أوروبيون إسرائيل من أن “أزمة إنسانية بهذا الحجم ستقوّض شرعية أي دعم سياسي أو عسكري غربي لها”.
محاولة لتبييض الصورة وتخفيف الانكشاف الأخلاقي
التدهور الإنساني الحاد في غزة أثار موجة استنكار عالمية، أعادت إلى الواجهة ملف المسؤولية القانونية لإسرائيل كقوة احتلال. ومع تصاعد التغطية الإعلامية الدولية لمشاهد الجوع والدمار، بدأت إسرائيل تدرك حجم الضرر الذي لحق بصورتها السياسية والأخلاقية.
وفي هذا السياق، نقل موقع “أكسيوس” الأميركي أن مستشاري الأمن القومي في الولايات المتحدة دعوا إسرائيل إلى اتخاذ “خطوات فورية لإظهار الاستجابة الإنسانية”، مؤكدين أن استمرار الحصار الكامل يعقّد الدعم الغربي ويغذّي خطاب المعسكر المناهض لإسرائيل داخل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وعليه، يمكن قراءة قرار فتح الممرات الإنسانية اليوم كمحاولة لتخفيف الانكشاف الأخلاقي، عبر تقديم صورة توحي بأن إسرائيل تستجيب إنسانيًا عندما “تستدعي الحاجة”، دون التنازل عن أولوياتها العسكرية المعلنة.
حماس: محاولة مكشوفة لتجميل صورة الاحتلال
في أول رد على القرار، اتهمت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسرائيل بمحاولة “تبييض” صورتها والتهرب من مسؤوليتها في تفجير كارثة التجويع، مؤكدة أن إدخال المساعدات لا يرقى إلى معالجة حقيقية للوضع.
وأوضحت الحركة في بيانها أن إدخال الغذاء والدواء هو “حق طبيعي وليس منّة”، وأن إسقاط المساعدات جوًا “خدعة إعلامية” هدفها الالتفاف على المطلب الرئيسي: إنهاء الحصار ووقف سياسة التجويع التي أودت بحياة أكثر من 1000 فلسطيني.
وأضافت حماس أن تحكم إسرائيل في نوعية وكميات المساعدات ومواقع إسقاطها يعرض المدنيين للخطر، مجددة مطالبتها بفتح المعابر البرية بإشراف دولي، ومواصلة الضغوط لكسر الحصار ووقف المجازر.
بدوره، أكد مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن القطاع بحاجة إلى 600 شاحنة مساعدات يوميًا لتلبية الحد الأدنى من احتياجات السكان، وأن أي حلول مؤقتة لا تُنهي الكارثة الإنسانية.
تحسين صورة الجيش الإسرائيلي
على الصعيد الداخلي، تواجه المؤسسة العسكرية الإسرائيلية انتقادات متصاعدة بسبب الإخفاق في الحسم العسكري في غزة، وتعثر ملف الأسرى.
وفي محاولة لتلميع صورة “الجيش الأخلاقي”، جاء قرار السماح المحدود بدخول المساعدات وتنسيق عمليات الإسقاط الجوي، بالتعاون مع منظمات دولية مثل الأونروا وبرنامج الغذاء العالمي.
وبحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، جرى اتخاذ القرار في اجتماع أمني مصغر برئاسة نتنياهو، وبمشاركة وزير الأمن يسرائيل كاتس ورئيس الأركان إيال زمير، وتم الاتفاق على أن السماح المحدود بالمساعدات “لن يضر بالمجهود العسكري، بل قد يُحسّن صورة إسرائيل أمام العالم”.
وأشار مصدر عسكري للصحيفة ذاتها إلى أن مناطق الإسقاط تم اختيارها بعناية، بعيدًا عن مناطق الاشتباك، مؤكدًا أن الخطوة لا تعني أي تغيير سياسي في الموقف من حركة حماس.
مناورات سياسية وتقويض لدور الوسطاء
يتضمن القرار أيضًا رسالة سياسية موجهة إلى مصر وقطر، مفادها أن إسرائيل قادرة على اتخاذ قرارات أحادية دون العودة إلى الوسطاء التقليديين.
فقد تم السماح بإدخال المساعدات خارج إطار التفاهمات الثلاثية، وبشروط تحددها إسرائيل وحدها، في محاولة لإعادة تعريف دور الوكالات الدولية كشركاء محايدين، بعيدًا عن نفوذ الوسطاء العرب.
وفي تصريح لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، قال مسؤول في هيئة “كوغات” الإسرائيلية إن تل أبيب “لم تمنع أي شاحنة مساعدات”، متهما الأمم المتحدة بالعجز عن التوزيع داخل القطاع، ومضيفًا أن “الوقت قد حان لإعادة تعريف من هو الشريك المسؤول في عمليات الإغاثة”.
المساعدات كسلاح في إدارة الحرب
رغم فتح الممرات، لم تعلن إسرائيل عن أي وقف لإطلاق النار أو تعليق لعملياتها العسكرية. بل شدد الجيش على أن “العمليات ضد البنية التحتية للإرهاب ستتواصل”، وأن السماح بالمساعدات “لا يعني تغييرًا في قواعد الاشتباك”.
وهذا يرسخ الانطباع بأن القرار لا يمثل تحولًا في إدارة الحرب، بل مناورة تكتيكية تهدف إلى امتصاص الضغط الدولي بأقل كلفة سياسية، مع الاحتفاظ الكامل بالسيطرة الميدانية.
ولذلك، لا يُتوقع أن تكون المساعدات منظمة أو كافية، بل مرجّح أن تتحول إلى أداة فوضى تعيق وصولها إلى مستحقيها، في ظل غياب التنسيق المحايد.
وفي هذا الإطار، حذّر المفوض العام للأونروا، فيليبي لازاريني، من أن إسقاط المساعدات جوًا “لن ينهي المجاعة”، وقد يعرّض المدنيين الجائعين للخطر، معتبرًا أن هذه الخطوة ليست سوى محاولة للتشويش على حجم الكارثة الإنسانية.
خطوة هشّة تحت ضغط، لا تحوّل في السياسة
رغم أهمية هذا التطور في التخفيف المؤقت من الأزمة، إلا أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية، واستمرار استخدام الحصار كسلاح، يعني أن قرار إدخال المساعدات يظل خطوة هشّة، يمكن التراجع عنها في أي لحظة، ما لم تُفرض ضغوط دولية صارمة لتغيير قواعد اللعبة بالكامل.