تحقيقات

أيَرضى سياسيونا أن يكونوا دون بائع الجمل في الوفاء؟

في زمن عزَّ فيه الصدق، وارتفعت فيه شعارات الوطنية دون مضمون، انتخب الشعب سياسيين، ومنح ثقته لآخرين عُيِّنوا في مناصب سامية، آملاً أن يكونوا أمناء على مصالحه، حماةً لثرواته، وسدنةً لكرامته. لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أن قسماً كبيراً من هؤلاء اختار الخيانة على الأمانة، والنهب على التنمية، والتسلط على الخدمة.

لقد تحوّل المنصب العمومي إلى وسيلة لجمع الغنائم بدل صيانة المقاصد. فمن دخل القصر ــ بفضل ثقة المواطنين ــ لم يعد يخرج منه إلا وقد أقام لنفسه حصناً مالياً، وسيارة مظللة، وحساباً مصرفياً في الخارج، ومدارس خاصة لأبنائه في الداخل أو الخارج، وضماناً صحياً لا يعرفه المواطن البسيط الذي انتخبه.

ومقابل هذه الامتيازات، خان السياسيون الأمانة. لم يسعوا إلى إصلاح التعليم، ولا حماية الصحة العمومية، ولا إرساء بنية تحتية تليق بكرامة الإنسان. والأدهى من ذلك أنهم جعلوا من ثروات البلاد سلعة رخيصة في مزادات الرشاوى، تُمنح للشركات الأجنبية مقابل فتات، بينما تُستنزف الأرض والبحر، ويُطرد المواطن من خيرات وطنه.

خذ مثلاً صفقات “دقيق السمك”، التي أدت إلى كارثة بيئية واقتصادية صامتة. اليوم، يقر المستثمرون بأن الشواطئ خلت من السردين والأنواع الأخرى المستهدفة بهذا النشاط الصناعي المدمر. والأسوأ أن العائدات التي كان يُفترض أن تدعم الاقتصاد الوطني تنتهي في جيوب القلّة المتنفذة، بينما يزداد الفقر والبطالة، وتتآكل مصادر رزق الصيادين التقليديين.

في هذا المشهد المؤلم، تلوح في الأذهان قصة الجمل الشهيرة. باع رجل جملاً له في السوق، فلما أراد الجزارون ذبحه، رفض الجمل الدخول إلى المسلخ. استُدعي صاحبه الأصلي، فأخذ بخطامه، فتبعه الجمل مطمئنًا. لكن عندما جاء الجزارون بسكاكينهم، صرخ صاحب الجمل: “لن أُسلم من وثق بي للذبح، وحتي أموت لن أبيع هذا الجمل”.

كم من سياسي بيننا يحمل أخلاق بائع الجمل؟ كم منهم يرفض أن يبيع من وثقوا به؟ الواقع يقول: قليل جدًا، إن وُجد.

لقد صار المواطن مجرد “جمل” يُقاد بخيط الوعود، ثم يُسلم للذبح بعد كل موسم انتخابي. بينما الجزارون يرتدون بدلًا رسمية، ويتحدثون بلغة التنمية، وهم يمعنون في الفساد.

لقد آن أوان الصحوة. فليس من المقبول أن يكون تاجر بسيط أكثر وفاءً من نائب أو وزير أو مسؤول أقسم اليمين وخان. الوطن لا يُبنى بالكلام، بل بالفعل، ولا يُصان بالخيانة، بل بالوفاء.

فهل نُطالب بمستوى من الأخلاق أقل من أخلاق بائع الجمل؟
أم آن للمواطن أن يطالب بما هو أعلى: رجال دولة، لا سماسرة مصالح؟

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى