أسرار السجون السوداء: كيف حوّلت وكالة الاستخبارات الأميركية البشر إلى حقول تجارب

في يناير/كانون الثاني 2017، بثّت صحيفة نيويورك تايمز مقطعًا مصوَّرًا تضمن مقتطفات من جلسات استماع مرتبطة بدعوى قضائية غير مسبوقة، رفعها ثلاثة معتقلين سابقين في سجون وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA). ينتمي هؤلاء المعتقلون إلى جنسيات مختلفة؛ ليبية وتنزانية وأفغانية، إلا أن القاسم المشترك بينهم كان التعذيب الوحشي الذي تعرّضوا له ضمن ما عُرف ببرنامج “الاستجواب المشدد”.
خلال جلسات المحاكمة، روى محمد أحمد بن سعود وسليمان عبد الله سالم تفاصيل ما عاشوه هم ورفاقهم: ضرب مبرح، إيهام بالغرق، حرمان طويل من النوم، وأساليب تعذيب قاسية تركت في نفوسهم وجسومهم جروحًا لن تندمل مدى الحياة. أما غول الرحمن، المعتقل الثالث، فقد قضى تحت وطأة التعذيب، وتولى أقاربه متابعة الدعوى التي سُويت لاحقًا خارج أروقة القضاء.
اللافت أن الدعوى وُجهت ضد شخصيتين أساسيتين، هما عالما النفس الأميركيان جيمس ميتشل وبروس جيسين، اللذان صمّما وأسّسا البرنامج القائم على التعذيب الجسدي والحرمان الحسي، بهدف “تحطيم السجناء نفسيًا”. بل إن الاتهامات الموجهة لهما امتدت إلى محاولات استغلال العقاقير المخدرة للتأثير على عقول المعتقلين، في أبحاث استندت إلى تجارب سوفياتية سابقة، وإلى برنامج أميركي سيئ السمعة هو “إم كيه ألترا” (MK-Ultra)، الذي استخدم عقاقير مثل “LSD” للتلاعب بالبشر دون علمهم، في إطار البحث عن ما سمّي بـ”مصل الحقيقة”.
ورغم إغلاق ملفات “إم كيه ألترا” رسميًا عام 1973، إلا أن تجارب “التحكم بالعقول” أعيد توظيفها في ما بعد ضمن الحرب الأميركية على الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، لتصبح أساسًا لأساليب تعذيب مرعبة مورست في سجون الولايات المتحدة السرية.
السجون السوداء: فضاءات خارج القانون
اعتمدت وكالة الاستخبارات الأميركية سياسة تقوم على اعتبار المعتقلين “مخازن أسرار” ينبغي تفريغها بأي وسيلة. وهكذا وُضعت شبكة من “المواقع السوداء” المنتشرة في أكثر من 54 دولة، حيث احتُجز المعتقلون في ظروف لا إنسانية، محرومين من المحاكمة والدفاع عن أنفسهم، وكثيرون منهم لا يعرفون حتى التهم الموجهة إليهم.
انتشرت صور مروعة من سجن أبو غريب، أبرزها صورة سجين شبه عارٍ، رأسه مغطى بكيس، تتدلى من ذراعيه أسلاك كهربائية. هذه الصورة وصفها الأكاديمي الأميركي باري ساندرز في كتابه اختفاء الكائن البشري بأنها تجسيد لفقدان الإنسانية، حيث يُعامل البشر كدمى معدة للتجارب.
ساندرز حلل السياسات التي أقرّتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، مشيرًا إلى ظهور مفهوم “السجناء الأشباح” الذين اختفوا في غوانتانامو وأبو غريب وباغرام. وكان الهدف من هذه السياسات ـ بحسبه ـ تحييد القيم الإنسانية والتأسيس لتبرير المعاملة الوحشية باعتبار المعتقلين “آخرين” لا يستحقون الحقوق.
وقد تأكدت هذه الممارسات عبر التقرير الشهير الذي أصدره مجلس الشيوخ الأميركي عام 2014، والذي امتد على 6700 صفحة، ووثق بالتفصيل الانتهاكات التي مارستها الـCIA، بما في ذلك: الإيهام بالغرق، الحرمان من النوم، التجويع، التعري القسري، الضوضاء البيضاء، والاحتجاز في صناديق ضيقة أشبه بالتوابيت. والأسوأ أن منفذي البرنامج ادّعوا أن هذه الوسائل لا تخلّف آثارًا نفسية أو جسدية طويلة الأمد، في محاولة لتبريرها قانونيًا وأخلاقيًا.
“مصل الحقيقة” وتجارب على البشر
وثائق رُفعت عنها السرية عام 2018 كشفت أن مكتب الخدمات الطبية التابع لوكالة الاستخبارات أشرف بين عامي 2002 و2007 على برنامج “الاستجواب المشدد”، الذي استهدف 97 معتقلًا في 10 سجون سرية. المهمة الرسمية للمكتب كانت “الحفاظ على حياة السجناء”، لكن عمليًا شارك الأطباء في الإشراف على عمليات التعذيب.
أول ضحايا هذا البرنامج كان أبو زبيدة، الذي اعتُقل في باكستان عام 2002. بعد إصابته بطلق ناري، أُخضع لعزلة تامة 47 يومًا قبل أن يبدأ تعذيبه: الإيهام بالغرق 83 مرة، الاحتجاز عاريًا في صناديق ضيقة، والحرمان المستمر من النوم. وفي النهاية، اعترف الفريق الطبي بأن الرجل لم يكن يمتلك أصلًا معلومات ذات قيمة عن هجمات محتملة.
في خضم هذه الجلسات، ناقش الأطباء استخدام عقار “فيرسيد” (Versed) كمخدر قد يؤدي إلى كسر مقاومة المعتقلين. ورغم توقف التجربة خوفًا من العواقب القانونية، إلا أن مجرد التفكير في هذا الخيار عكس حجم الانحدار الأخلاقي الذي وصلت إليه الوكالة.
اعترافات بلا محاسبة
في يناير/كانون الثاني 2020، مثل جيمس ميتشل أمام محكمة عسكرية في غوانتانامو، حيث اعترف بمشاركته المباشرة في تعذيب المعتقلين عبر الإيهام بالغرق، الضرب، الحرمان من النوم، والتهديد بقتل أحد أبناء السجناء. ومع ذلك، لم تُتخذ أي إجراءات قانونية لمحاسبته أو غيره من المتورطين.
المخاوف اليوم تتعلق بما لم يُكشف عنه بعد؛ فالسجون السرية التي تديرها أجهزة أميركية ما زالت تخفي وراء جدرانها قصصًا ومآسي قد لا ترى النور. وبينما تسعى واشنطن لتلميع صورتها الأخلاقية أمام العالم، تكشف الوثائق المسربة والاعترافات أن الحقيقة أكثر قتامة، وأن ما جرى كان جريمة ممنهجة ضد إنسانية البشر.