أزمة الحكامة في موريتانيا: تأسيس على التهميش وشرعية تنتجها المعاناة

منذ اللحظة التي أعلن فيها المستعمر الفرنسي “منح الاستقلال” لموريتانيا، بدا واضحًا أن الأمر لا يتعلق بتأسيس دولة وطنية حقيقية، بل بإعادة تدوير النفوذ الاستعماري عبر نخبة محلية صُنعت على عجل، وتم اختيارها بعناية من الفئات التي لا جذور اجتماعية لها، ناتجة غالبا ٩ عن علاقات الإكراه التي فرضها جنود الاحتلال على نساء من طبقات مغلوبة، نبذهم المجتمع، واحتضنهم المستعمر، وأدخلهم مدارسه في السنغال، ليتعلموا كيف ينفذون أوامره بحذافيرها.
إلى جانب هؤلاء، ظهر أبناء المدارس الفرنسية من الموريتانيين الذين ارتضوا – طوعًا أو كرهًا – الدخول في منظومة تربوية استعمارية صاغت عقولهم، فظهر منهم فريقان: أحدهما يحاول إظهار شيء من التعاطف مع الشعب، وآخر تماهى بالكامل مع منطق المستعمر، وتبنّى ثقافة الهيمنة والتجهيل وتكريس الامتياز الطبقي.
مع ما سُمي بالتحول الديمقراطي، لجأ النظام إلى تكتيك جديد: امتصاص الغضب الشعبي من خلال خلق شخصيات سياسية تعبّر – جزئيًا – عن مظلومية بعض الفئات، دون امتلاك أدوات الفعل أو إرادة التغيير الحقيقي. ومن بين هذه الشخصيات يبرز برام الداه اعبيد، الذي جسّد بجرأة قضايا “لحراطين”، لكنه كثيرًا ما وقع في فخ الخطاب الانفعالي، وسقط في شَراك الشعارات الصبيانية، مما أضعف مشروعه، وعرّاه من المقومات التي تؤهله لقيادة وطنية جامعة.
رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن برام يمثل حالة رمزية لصرخة تاريخية، وإذا راجع لغته السياسية، وابتعد عن الغوغائية، وتسلّح بثقافة متينة، فقد يكون أحد المفاتيح التي تفتح باب العدالة الاجتماعية للجميع، لا لفئة واحدة.
فالمظلومية التاريخية لفئة لحراطين واقع لا يمكن تجاهله. لكن معالجة هذه المأساة يجب أن تتم بروح جامعة، لا من خلال تعميق الانقسامات الاجتماعية أو صناعة صراعات بين المظلومين أنفسهم، الأمر الذي قد يفضي إلى تفكك الدولة ويخدم أجندات أجنبية تعبث بالنسيج الوطني.
إن أزمة الحكامة في موريتانيا اليوم هي أزمة في الجذر، في طريقة التأسيس، وفي منطق السلطة. ما دام التعيين يتم بالقرابة أو النفاق أو التبعية، وما دام القرار حكرًا على شبكة مغلقة من المتنفذين، فستبقى العدالة مؤجلة، والتنمية وهمًا يُباع في خطابات المناسبات.
نحن بحاجة إلى قائد ناضج، عاش الظلم، لكنه لا ينتقم، يمتلك ثقافة وطنية جامعة، وكاريزما تؤهله ليقود مرحلة جديدة تُؤسس لوطن عادل، يضم كل أبناءه دون إقصاء.
ولن يكون ذلك ممكنًا إلا إذا اجتمعت نخب المهمّشين على برنامج وطني عقلاني، يتجاوز ثقافة الاحتجاج اللحظي، نحو مشروع وطني يعيد بناء الدولة من جديد على أساس المواطنة لا الزبونية.
حمادي سيدي محمد آباتي