ثقافة

أزمات الساحل الإفريقي: الأسباب والانكعاسات وأصداؤها في موريتانيا

يشهد إقليم الساحل الإفريقي في العقدين الأخيرين أزمات متراكمة ومعقدة، تجمع بين الانقلابات العسكرية، وتصاعد نفوذ الجماعات المسلحة الأصولية والجريمة العابرة للحدود، وصولًا إلى التنافس الدولي على النفوذ بين قوى استعمارية قديمة وأخرى ناشئة. ومع أن مالي، بوركينا فاسو، النيجر وتشاد هي بؤر التوتر الأبرز، فإن شرر الأزمات امتد ليطرق أبواب دول كانت إلى وقت قريب تعتبر مستقرة نسبيًا، مثل بنين ونيجيريا، وقد يصل إلى توغو، ما ينذر بتغيير ملامح الخارطة الأمنية والسياسية لغرب إفريقيا برمّتها.

أولًا: الأسباب الكامنة وراء الأزمات والانقلابات

  1. سوء معاملة الأنظمة لشعوبها
    فشل الأنظمة في إرساء العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة عمّق الهوة بين الحكام والمحكومين. انعدمت الثقة، وترسخت قناعة لدى قطاعات واسعة بأن الحكومات لا تمثلها بقدر ما تمثل شبكات مصالح ضيقة. في مثل هذه الأجواء تصبح الانقلابات حلًا «عاجلًا» لتصحيح المسار، لكنها في الغالب لا تأتي بجديد سوى تدوير النخب نفسها بلبوس عسكري.
  2. الإرث الاستعماري والتبعية لفرنسا
    ظلت فرنسا تمسك بخيوط اللعبة السياسية والاقتصادية في مستعمراتها السابقة عبر اتفاقيات وعملات موحدة (الفرنك الإفريقي) وتواجد عسكري دائم. ولّدت هذه الهيمنة شعورًا بالمهانة والرغبة في التحرر منها، وهو ما استثمرته قوى أخرى مثل روسيا من خلال مجموعات «فاغنر» التي طرحت نفسها بديلًا «مناهضًا» للنفوذ الفرنسي، ما خلق صراعًا جديدًا يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة وحلف وارسو المنحلّ.
  3. الفراغ الأمني وتجارة السلاح والمخدرات
    تضعف أجهزة الدولة في هذه البلدان بفعل الفساد وسوء الإدارة، ما يجعل مساحات شاسعة خارج سلطة الدولة الرسمية. في هذا الفراغ تنشط الجماعات الجهادية والعصابات المنظمة، فتتداخل تجارة السلاح والمخدرات مع تمويل الإرهاب، مما يطيل أمد الفوضى ويغذيها ذاتيًا.

ثانيًا: انعكاسات الأزمة على موريتانيا

لموريتانيا وضع خاص يجعلها عرضة لهزات هذا الإقليم الملتهب. فهي تشترك بحدود مفتوحة مع مالي، وهي دولة عرفت كل أسباب الانهيار المذكورة أعلاه، إضافة إلى جوار متوتر مع المغرب «غير الصديق» ومع الجزائر التي تتعرض بدورها لتجاذبات إقليمية من تحالفات إقليمية مثل تحالف الإمارات والمغرب. كما أن تونس انضمت إلى محور الجزائر في محاولة لضبط التوازن الإقليمي.

داخليًا، تخضع موريتانيا لتحالف حكم هجين بين العسكريين والطبقة الرأسمالية الموروثة من إرث فرنكفوني راسخ. يحتكر هذا اللوبي الفرنكفوني التعليم النموذجي ويورّث المناصب لأبنائه، ما يخلق حالة من التململ لدى شرائح واسعة من أبناء الطبقات المهمشة، الذين تحمل آباؤهم تكاليف تعليمهم بجهدٍ وحرمان، ليصطدموا بواقع احتكار الوظائف وتلاعب بنتائج المسابقات كما في حالة امتحان الدكاترة الجامعيين.

هذا التهميش والظلم البنيوي يجعل من موريتانيا مرشحة بدورها لاهتزازات اجتماعية إن لم يتغير نمط الحكم فيها ويعاد توزيع الفرص بشكل أكثر عدالة. فالأزمات في الساحل لم تعد ظاهرة معزولة بل تتحرك بعدوى من دولة لأخرى، خاصة عندما تكون الحدود رخوة والمظالم متشابهة.

ثالثًا: ضرورة إعادة النظر في أسلوب الحكم

يتطلب الواقع الجديد في الساحل الإفريقي أن تدرك النخب الحاكمة في موريتانيا أن حماية الاستقرار لم تعد ممكنة بمجرد السيطرة الأمنية أو تدوير الوجوه. لا بد من معالجة الاختلالات البنيوية في التوزيع العادل للتعليم والوظائف والثروات، وتحقيق قدر من الشفافية والنزاهة في الإدارة العامة.

إن ترك الأمور على حالها يعني أن شرعية النظام ستتآكل تدريجيًا تحت ضغط الإقصاء والفساد، مما يفتح الباب أمام موجات احتجاج وربما اختراقات أمنية تستغلها جماعات مسلحة أو قوى إقليمية متربصة.

خاتمة

أزمات الساحل الإفريقي مرآة لمزيج من الإرث الاستعماري، الفساد الداخلي، والصراع على النفوذ الدولي. والدروس واضحة: من لا يبادر لإصلاح بيته الداخلي، سيجد نفسه يومًا ما هدفًا لعدوى الفوضى المنتشرة على حدوده. وعلى موريتانيا أن تقرأ خريطة جوارها الملتهب جيدًا، وأن تعيد ترتيب بيتها قبل أن يدهمها ما تدهم به جيرانها.

حمادي سيدي محمد آباتي

زر الذهاب إلى الأعلى