اقتصاد

نساء الجنوب اللبناني.. زراعة المقاومة تحت ظلال الحرب

في الجنوب اللبناني، حيث تتشابك جذور الزيتون مع ذاكرة النزوح، تولد ملامح مقاومة ناعمة تنسجها نساء لم تهزمهن الحرب. نساء نهضن من تحت أنقاض التهجير، ليفتحن صفحة جديدة عنوانها الأمل والعمل في أرضٍ غريبة أصبحت ملاذًا للكرامة والإرادة.

في مدينة صور، الحاضنة لتاريخ عريق، وجدت زينب مهدي نفسها بعد أن اضطرها العدوان لترك مسقط رأسها في الناقورة. زينب، التي اعتادت زراعة الأرض ورعاية المواسم، تقف اليوم فوق التربة بأنامل متشققة، تنبش الحياة من جديد بإصرار لا يعرف الانكسار.

تقول زينب في حديثها لموقع الجزيرة نت: “منذ اندلاع الحرب وأنا نازحة، ومنذ عام ونصف أعمل في هذا المشروع. هو ليس مجرد عمل، بل بداية حياة جديدة أعيد فيها بناء ذاتي بعد سنوات من الألم”.

المشروع، الذي يحتضنه تراب صور، ليس مجرد مبادرة زراعية، بل مساحة تنموية اجتماعية تنبض بالوعي والمقاومة. هدفه تمكين النساء النازحات اقتصاديًا ونفسيًا، بعيدًا عن منطق الإغاثة الطارئة، عبر تدريبهن على الزراعة المستدامة وتحويل المعاناة إلى طاقة إنتاج.

وتتابع زينب: “وجدنا في هذا المشروع ملاذًا من ضغوط الحياة اليومية. نلتقي نساء يشبهننا، نشارك القصص والهموم، ونحيا بكرامة”. وتضيف بثقة: “نصنع المبيدات بأيدينا من أعشاب محلية كـالزنزلخت والريحان والدفلى، وكل شيء طبيعي 100%، نحمي به الأرض والثمار”.

الزراعة: أداة للتمكين والمقاومة

على جانب آخر من الحقل، تحيك عبلة مصطفى سويد من بلدة ضهيرة حكاية أخرى. رغم النزوح القسري، ظل عشقها للأرض حيًا، وعثرت في المشروع على فرصة للعودة إلى الجذور. تقول: “تعلمنا كيف نحافظ على رطوبة الأرض باستخدام التبن، وكيف نعيد استخدام كل ما نملك. الزراعة هنا صارت مقاومة للجفاف والنسيان”.

أما حنان محمد سويد، القادمة أيضًا من ضهيرة، فتؤكد أن الأرض وإن ابتعدت عنها، بقيت تسكن قلبها. وتوضح: “كل شيء يندثر هناك: الزيتون، الزراعة، الحياة. لكن ربما إذا زرعنا هنا اليوم، سنحافظ على أرضنا هناك غدًا”. وتضيف: “تعلمنا أساليب جديدة، مثل استخدام الرماد والتبن للحفاظ على التربة. حين نعود، سنزرع بوعي أكبر”.

تشاركها الرؤية ملك مصطفى التي تجد في الزراعة ليس فقط مصدر رزق، بل فعل استعادة. تقول: “كنت أزرع التبغ والحبوب والخضار، لكن هنا تعلمت أشياء بسيطة تصنع فرقًا كبيرًا، مثل الكومبوست واستخدام الأعشاب الطبيعية. المشروع لم يمنحنا فقط أدوات الزراعة، بل أعاد لنا الحياة”.

“بذور صور”: من الزراعة إلى السيادة

يقف خلف هذه القصص مشروع “بذور صور”، بإشراف الحركة الزراعية في لبنان، بقيادة سارة سلوم التي تؤكد أن المبادرة تستهدف تمكين النساء النازحات عبر تدريبهن على الزراعة العضوية، وتأمين مصدر دخل دائم يكفل لهن الكرامة والاستقلالية.

توضح سلوم: “نعمل على كامل سلسلة الإنتاج، من إكثار البذور المحلية إلى تصنيع الغذاء. وتُستخدم الخيم الزراعية لإنتاج شتول تخدم منطقة صور والقرى المحيطة، مع تركيز خاص على الأشجار البرية المهددة بالاندثار بفعل العدوان”.

وتضيف: “غالبيّة المشاركات في المشروع نازحات من القرى الحدودية، يحملن معرفة زراعية فطرية. نأمل أن تُنقل هذه الخبرات إلى قراهن الأصلية عندما تسمح الظروف بالعودة”.

وتختم حديثها بنبرة ملؤها الطموح: “نسعى لتكرار هذا النموذج في مختلف المناطق، وتوزيع البذور البلدية لتعزيز الزراعة المستدامة، حتى يظل لبنان أخضر، مهما اشتدت التحديات”.

زر الذهاب إلى الأعلى