مدن وبلدان

حياة المدن القديمة في موريتانيا

حياة المدن القديمة في موريتانيا

في قلب الصحراء الشاسعة وتحت سماء الصحراء الفسيحة، تتناغم تفاصيل حضارات قديمة مذهلة في أرض موريتانيا. إن حياة المدن القديمة في هذا الوطن الغني بالتاريخ تعكس بروزًا للثقافة والتقاليد التي نقلتها أجيال عديدة عبر العصور. فالمدن القديمة تروي قصصاً لا تُنسى عن التبادل الثقافي والازدهار الاقتصادي الذي ازدهر في هذه الأماكن الساحرة

وتُعَدّ المدن القديمة في موريتانيا علامات فارقة في مسار الإنسانية، حيث يشعر المرء وكأنه يعيش في عالم زمني موازٍ، يحمل في طياته رموزاً وتراثاً يشكلان جزءًا لا يتجزأ من هذه الثقافة الرائعة

تتألق المدن القديمة في موريتانيا كمساجدها الضخمة والتي تعد شاهداً على عظمة الفن المعماري الإسلامي. حيث تتسم مدينة شنقيط، على سبيل المثال، بأبراجها الشاهقة وساحاتها الرخامية، مما يجسد روعة الحضارة الإسلامية في هذه الأرض السحرية. وتعتبر هذه المدن أضرحة لتراثٍ يحكي عن عبق الماضي وتطور المجتمع على مر العصور

وفي سياق الحياة اليومية في المدن القديمة، يتجلى تأثير الطقس والطبيعة في نمط الحياة، حيث تتجسد الصحراء الشاسعة كرفيق للحياة اليومية. كما تتميز الأسواق التقليدية بألوانها الزاهية وروائحها الفريدة، حيث يتلاقى الباعة والزوار ليشكلوا لوحة حية تعكس نمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي في هذه المدن

وعلى الرغم من تقدم العصر وتأثير التكنولوجيا الحديثة، إلا أن المدن القديمة في موريتانيا تظل تحتفظ بسحرها وجاذبيتها التي تجمع بين العراقة والحداثة. إن حياة المدن القديمة في هذا البلد الواقع على تقاطع الزمن والثقافات تمثل رحلة ساحرة إلى عالم لا يُنسى، يروي لنا قصة استمرارية الحضارة وتجذيرها العميق في هذا الركن الفريد من العالم.

وسنتحدث في هذا المقال عن أهم المدن القديمة في موريتانيا ألا وهي : مدينة ولاتة، ومدينة تيشيت ، ومدينة شنقيط ،ومدينة وادان

أولاً: مدينة ولاتة 

حياة المدن القديمة في موريتانيا

ولاتة أو “ولاتن”، هي مدينة تاريخية في موريتانيا، تقع في ولاية الحوض الشرقي، وتبعد نحو 1350 كيلومترًا عن العاصمة نواكشوط، محاذية الحدود مع مالي. تم اعتبارها من قبل اليونسكو موقعًا للتراث العالمي، مما يعكس قيمتها التاريخية والثقافية

نشأتها

تعود جذور تاريخ هذه المدينة الرائعة إلى القرن الأول الميلادي، حيث كانت تُعرف باسم “بيرو”. خلال فترة الملثمين، وبتسميات مثل “إيوالاتن” أو “أيوالاتن”، ازدهرت المدينة بشكل كبير مع قدوم الإسلام إلى الصحراء. كانت نقطة توقف هامة للتجار والقوافل القادمة من الجنوب في أفريقيا، متجهة إلى الشمال

وفي مطلع القرن الرابع عشر، في عام 726 هجري، زار المسافر الإسلامي ابن بطوطة هذه المدينة وأشاد بالازدهار الكبير الذي كانت تعيشه، بفضل موقعها الاستراتيجي كنقطة اتصال بين المناطق الجنوبية الأفريقية والدولة الإسلامية في الشمال. ووصف ترف الحياة فيها قائلاً: “ويجلبون إليهم تمر درعة وسجلماسة، وتأتيهم القوافل من بلاد السودان، فيحملون الملح، ويباع الحمل منه بثمانية مثاقيل إلى عشرة، ويباع في مدينة مالي بعشرين مثقالاً وربما يصل إلى أربعين مثقالاً وبالملح يتصارفون كما يتصارف بالذهب والفضة”

ومنذ بداية القرن السادس عشر، عُرفت مدينة ولاته بنهضة فكرية كبيرة، وأصبحت أحد أبرز مراكز الإشعاع الثقافي العربي الإسلامي. واستقطبت عددًا كبيرًا من علماء مدينة تمبوكتو، واستقر بها مفكرون من مختلف البلدان، مما أضفى عليها طابعًا ثقافيًا وعلميًا لا يضاهى. وكما تجلى هذا التنوع في العمارة الولاتية وعادات السكان، فإنه يبرز بوضوح في تباين مدينة ولاته كواحدة من روائع العلم والثقافة في قلب صحراء تتسم بطابع بدوي، متنافرة مع العادات الحضرية التي جلبها المهاجرون من فاس وتلمسان وغيرها من المدن العربية الرائعة في البنية والحضارة

فن العمارة في ولاتة 

تتميز البيوت الولاتية بفن عمارتها الفريد، الذي يستمد إلهامه من التراث العربي الإسلامي، وخاصة الأندلسي والمغربي. يظهر ذلك بشكل واضح في اختيار المواد البنائية وأنماط الزخرفة، حيث يميلون نحو البساطة في التصميم مع استخدام مواد محلية مثل الفخار والجص والجليز، بالإضافة إلى الحجارة الملونة عالية الجودة. تضمن هذا الاختيار قوة البناء وانسجامه مع البيئة المحيطة، حيث تتسلط الأضواء على جمالها على قمم التلال

ويتمثل رونق العمارة الولاتية في الفسيفساء التي تزيّن جدرانها ومداخلها، حيث حاول باحثون من الغرب ومن موريتانيا فهم المعاني الرمزية لهذه اللوحات. واتفقوا على أن بعضها يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، حاملاً في طياته أساطير وعبارات ثنائية، في حين يعود بعضها الآخر إلى تأثير إسلامي مغربي أندلسي، وهو أمر يشعل الجدل بين المؤرخين حول مدى إمكانية قدومها من فاس أو تلمسان

تُضفي البيوت الولاتية نوعًا من التهوية الطبيعية من خلال تقليل عدد الأبواب، حيث يتم تخصيص بابين لكل منزل أحدهما لاستقبال الرجال، والآخر للنساء والحريم بشكل عام. ويتوفر في كل بيت مجلس محلي يُعرف محلياً بـ “درب”، يشير إلى موقعه القريب من باب الشارع، لتجنب رؤية الزائر للحريم. كما يتوفر للحريم مجلس يُسمى “السقفة”، ويكون بابه داخليًا، متفرعًا من إحدى الغرف. ولا يخلو بيت من دور علوي يسمى “القرب”، مع سلم واسع يتيح الوصول إليه، ويشكل فناءً تحته يستخدم لتبريد قدور الماء والاحتفاظ ببرودتها

الصعوبات الموجودة في المدينة

تواجه مدينة ولاته اليوم تهديدًا خطيرًا لتراثها الإسلامي العظيم، حيث تتعرض لخطر الغمر بفعل التصحر وتقدّم الرمال. هذا ما دفع اليونيسكو إلى إطلاق حملة دولية لإنقاذ المدن التاريخية الأربع في موريتانيا. ويُعتبر هجرة عدد كبير من سكان ولاته أمرًا ملحًا، حيث انخرطوا في الرحيل بحيث انخفض عددهم إلى أقل من ألفي نسمة، بعد أن كانوا يتجاوزون العشرات من الآلاف في عصور سابقة

وتظل مكتبات ولاته تمثل مصدر الأمل الوحيد، حيث تتلقى دعمًا من اليونيسكو والمعهد الموريتاني للبحث العلمي. هذا الدعم ساهم في تصنيف بعض مكتباتها التي تحوي آلاف المخطوطات الثمينة والتي لا تقدر بثمن. وعلى الرغم من ذلك، تظل بعض المكتبات تعاني من الإهمال وتعيش حالة مزرية، مما يشكل تهديدًا يستدعي التدارك من قبل الحفاظ على ثقافة هذه الأمة، لكي لا تندثر وتصبح ذكرى بعد أن كانت رمزًا حيًّا للأبد.

ثانيا: مدينة تيشيت

حياة المدن القديمة في موريتانيا

تيشيت، مدينة موريتانية تحمل عبق التاريخ والأثر العظيم، وقد شرفتها اليونيسكو بتصنيفها كجزء لا يتجزأ من التراث العالمي. تأسست هذه المدينة الرائعة على حدود القرن الحادي عشر الميلادي، مزيج  بين التاريخ العريق والرونق الثقافي. وتتواجد تيشيت على حافة هضبة تكانت، بوسط موريتانيا، تمثل بوابة دخول إقليم آوكار، وتبعد أكثر من 250 كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من مدينة تجكجه، العاصمة الإدارية لولاية تكانت

وتُعتبر تيشيت الأربعة مع شنقيط وولاته ووادان، من مدن التراث التاريخي في موريتانيا، حيث كانت في الأصل مركزًا ثقافيًا ودينيًا، وشريانًا حيويًا لقوافل التجارة التي اجتازت الصحراء الكبرى لربط الغرب الإفريقي بشماله قبل قرون عدة. وتعتبرها منظمة اليونسكو المدينة الرابعة التي تهدد بالاندثار ضمن تصنيفها للتراث العالمي للإنسانية

تحتضن تيشيت كل أربع سنوات مهرجان مدائن التراث، الذي كان يُعرف في البداية باسم “مهرجان المدن القديمة”، حيث يتناوب تنظيمها مع المدن التاريخية الثلاث الأخرى: شنقيط، ووادان، وولاته. وقد أُقيم هذا الحدث الرائع في تيشيت ثلاث مرات حتى الآن، في الأعوام 2013 و2017 و2023، مسجلاً بذلك بصمات تاريخية تضاف إلى سجل هذه المدينة الفريدة والمتألقة

وتُعد تيشيت من الأمثلة الرائعة على الروح العلمية والدعوية والتجارية في إقليم الساحل الإفريقي، حيث أثبتت نفسها كواحدة من المدن الفريدة والمهمة التي حظيت بتصنيف مرموق من قبل اليونيسكو كتراث عالمي. تأسست هذه المدينة العريقة على يد الشريف عبد المؤمن بن صالح في عام 536 هجرية، وتعتبر شاهدة على تاريخ غني وثراء حضاري

كما تُعتبر تيشيت ملتقى للعلم والدعوة والتجارة، حيث تجسد روعة التوازن بين البعد الروحي والجوانب الحضرية والاقتصادية. يُروى أن الشريف عبد المؤمن، مؤسس المدينة الرائعة، قد اختار اسمها بعناية بناءً على إعجابه بموقعها الفريد الذي رآى فيها جمال الجبل الذي يتسلط عليها. قال لأشرافها المعروفين: “تي شئت”، أي “اخترت ما أردت”. ومن بين أوائل معالمها البارزة كان بناء المسجد، الذي يتميز بارتفاع منارته الذي يبلغ 16 مترا، يشكل رمزاً بارزاً للتراث الديني والمعماري الرفيع الذي تحتفظ به تيشيت

ومن أهم معالم تيشيت، يبرز مسجد تيشيت العتيق كرمز للتراث الديني والمعماري البارع. ويتألق بتفاصيله الفريدة التي تتضمن الكنفات والسكفة والمنارة وحجرة النساء. يعكس هذا المعلم الديني الرائع قيم الفن المعماري الذي نقلنا به إلى عمق التاريخ

تتميز شوارع تيشيت بتسمياتها الشاعرية والمميزة، حيث يتدفق شارع “بَامْبِّ” كنهر من الذكريات، يربط الماضي بالحاضر بسلاسة. وكذلك ينساب شارع كمكينَّ بجماله الفريد، وشارع ديرار الذي يروي حكايات الماضي بأزقته الضيقة

وتُزين المدينة المكتبات الأهلية بمقتنياتها الثقافية والمعرفية، حيث تعكس تلك المكتبات الغنى الفكري والتأريخي لسكان تيشيت. ولدى استكشافها، يظهر أمام الزائر مقبرة مدينة تيشيت كشاهدة على مرور الأجيال وتواجد الثقافة والتاريخ في كل زاوية

كما تضيف واحة تيشيت لمسة خاصة من السحر والجمال للمدينة، حيث تشكل محطة للهدوء والاسترخاء في قلب هذا البيئة التاريخية. وتكتمل جمال المدينة بوجود السبخة، محورًا مائيًا يضفي رونقًا طبيعيًا على هذا التحفة الثقافية والتاريخية الفريدة

تتسلل الحفريات في محيط مدينة تيشيت إلى عمق التاريخ، حيث تكشف عن أثار حياة بشرية تمتد لخمسة آلاف عام، وتظهر آثار الزراعة في سهولها منذ ثلاثة آلاف عام. تتألق المدينة بمعمارها الفريد وأزقتها الحجرية، وتفتخر بمكتباتها الغنية بالمخطوطات النادرة والثمينة، حيث يُقدر عددها بحوالي عشرة آلاف مخطوط، مما يجعلها خزانًا ثقافيًا يضج بالتراث والمعرفة

كما تتسم حياة سكان المدينة بالاعتماد على زراعة النخيل واستخراج الملح بوسائل بسيطة من السبخة التي تبعد حوالي ثلاثة كيلومترات عن المدينة. وتُعد السبخة شريانًا اقتصاديًا حيويًا يغذي نشاط المدينة، حيث يتجلى التفاعل الحيوي بين المكونات الطبيعية والحضرية ليخلق مجتمعًا متجذرًا في تقاليده وقوى اقتصادية تتفتح بين أزقتها الضيقة

إن مدينة تيشيت لا تقتصر فقط على الحاضر وإنما تمتد جذورها إلى عمق الماضي، حيث تعكس تلك الحفريات ثراء التراث الإنساني والتنوع الثقافي الذي شكّل هويتها. يتجسد فيها العمق التاريخي ورونق الحياة اليومية، مما يضفي على تيشيت مكانة لامعة بين مدن العالم التاريخية والثقافية.

ثالثاً: مدينة شنقيط 

شنقيط، هي مدينة تاريخية تنثر جمالها في الشرق من ولاية أدرار في موريتانيا، وتحمل عبق القرون الماضية في حضنها. تأسست هذه الجوهرة التاريخية في القرن الثاني (هـ) وشهدت فترات ازدهار متألقة قبل أن تتلاشى تدريجيًا، تخلفًا لمدينة “شنقيط” الحالية التي نشأت عام 1262م. يعود أصل اسم “شنقيط” إلى اللغة البربرية أو الأمازيغ، حيث يعني “عين الخيل”. كانت المدينة في الماضي نقطة انطلاق لقوافل الحجاج الذين كانوا في طريقهم إلى مكة عبر مصر والسودان، مما أسهم في تعميق الروابط الثقافية مع البلدان العربية والإسلامية

تزهرُ شنقيط بتاريخها المتراكم وتعبق بالقصص الضاربة في عمق الزمن. كمدينة تحمل تاريخاً عريقاً، تُشكل شنقيط رمزاً للتواصل الحضاري بين العالم العربي والإسلامي. يمتزج في شوارعها وأزقتها الضيقة لمحات من الزمن القديم، حيث تعكس برونقها الثقافي الفريد والتأثير الكبير الذي كان لها في رحلة الحضارة

كانت شنقيط، في موريتانيا، بؤرة للتألق العلمي والثقافي، يترسخ اسمها بين معانٍ عديدة، حيث شهدت في القرن العاشر (هـ) نهضة ثقافية استمرت لفترة طويلة. للأسف لم يكن أهلها يولون اهتمامًا كافيًا لتوثيق هذه الفترة المهمة من تاريخهم ونشاطهم العلمي. بُنيت المدينة القديمة لشنقيط في عام 160 هـ/ 776 م وعاشت لفترة قبل أن تتلاشى، لتنهض على أنقاضها مدينة شنقيط الحالية، التي تحمل في طياتها كنوزًا ثقافية تحمل بصمات التاريخ المنسية

تظل شنقيط مدينة متجذرة تقاوم الظروف الصعبة والعزلة القاتلة، وتحتفظ بتراثها الثقافي الذي لا يُنسى. وفي ظل الروايات المتعددة حول أصل اسم شنقيط، فإن بعض المصادر تُشير إلى “الشقيط” كنوع من الأواني الخزفية التي اشتُهِرت بها المنطقة، بينما تقول رواية أخرى إن كلمة “شنقيط” تعود إلى اللغة الأمازيغية وتعني “عيون الخيل”

كانت شنقيط محطة هامة في تجارة الصحراء، حيث كان الحجاج يتجمعون فيها لأداء فريضة الحج، ولهذا السبب أُطلق على سكان هذه المنطقة اسم “الشناقطة”. ترسخت المدينة بدورها التجاري والديني في بدايات القرن الحادي عشر (هـ) لتصبح العاصمة الثقافية لتلك البلاد

وقبل وصول العرب إلى أفريقيا وبلاد المغرب، كانت شنقيط هي محطة الصراع الثقافي لفترة طويلة، ورغم ذلك، لم يحدث انصهار عرقي ثقافي كما حدث في المجتمع الشنقيطي. اعتنق أهل الصحراء الإسلام وتحدثوا باللغة العربية الأصلية والمستوردة. وعلى الرغم من أنهم احتلوا مواقع السلم الاجتماعي بتمثيلهم لروح الإسلام والبطولة العربية قبل الإسلام، فإن التلاحم الاجتماعي والتنوع الثقافي للمجتمع الشنقيطي بقيت ملموسة، واستمرت اللغة العربية الحسانية في الانتشار والتطور بفضل الجهود المبذولة من قبل القبائل الصنهاجية.

رابعاً: مدينة وادان

وادان هي مدينة تاريخية في موريتانيا، توجد على ذروة هضبة آدرار، وتحتضن عدة واحات نخيل. تبعد حوالي 170 كيلومترًا شرقًا من مدينة أطار في ولاية آدرار، وقريبة من تكوين حجري ضخم يُعرف باسم “قلب الريشات”. عاشت وادان ذروة ازدهارها في القرن السادس الهجري

لعبت المدينة دورًا تاريخيًا هامًا في الفترة قبل الاستعمار الفرنسي لموريتانيا، حيث ساهمت عرب مدينة ودان وحماتها، وكانوا يتألفون أساسًا من حماة المدينة، وخاصة أولاد غيلان، وخاصةً بطن الحياينة من قبيلة أولاد غيلان، المغافرة الجعافرة الهاشميون، في الدفاع عن تاريخ مدينة ودان في معارك الجهاد ضد الفرنسيين المحتلين لموريتانيا، وذلك في معارك شنقيط واغماكو التي قادها البطل سيد أحمد ولد تكدي الغيلاني، الذي قاتل بشجاعة خلال حملة هنري غورو على آدرار في عام 1909

يعود تأسيس مدينة وادان الحديثة  إلى عام 536 (هـ) وكان من مؤسسيها الحاج علي الصنهاجي، الحاج يعقوب القرشي، والحاج عثمان الأنصاري، وانضم إليهم في وقت لاحق عبد الرحمن الصائم. قاموا ببناء أسوار لحماية المدينة من الغزو الذي كان سائدًا في ذلك الوقت. تقع المدينة على حافة الجرف وكانت مركزًا للتألق العلمي، حيث يشتهر فيها “شارع الأربعين عالمًا”

وفي الوقت الحاضر، تُعتبر وادان وجهة جذابة للسياح بفضل طبيعتها الساحرة وبيوتها الأثرية. قد أعلنتها منظمة اليونسكو إرثًا حضاريًا عالميًا، مما يبرز تاريخها وثقافتها الفريدة

ويعود تاريخ تأسيس مدينة وادان القديمة، التي استقبلت الإسلام في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، إلى فترة تعود إلى 3000 عام قبل الإسلام، ويشير إلى ذلك وثيقة مكتوبة على جلد غزال. ويروي السكان أن أول صلاة جمعة في هذه المدينة جرت في العام 146 (هـ)

وذُكرت المدينة في كتاب “فتوح البلدان” للمؤرخ العربي البلاذري، الذي وصفها باسم “أوجان” وهي قرية مسوفية، معناها في اللغة الصنهاجية “أرض الملح”

قد تم ذكر وادان من قبل المستكشفين والمؤرخين الأوروبيين في القرون الخامس عشر والسادس عشر، من بينهم البرتغالي فالانتينو فرناندش الذي وصف المدينة في عام 1507. ووصفها بأنها مدينة يسكنها حوالي 400 شخص، وتتميز بأهميتها كمركز لقوافل نقل الملح كهدية لمدينة تيشيت، والتي تبعد عنها سبعة أيام سفرًا، وكذلك نحو ولاتة وتونبكتو وغيرها من المدن الصحراوية

تحولت وادان تدريجياً إلى عاصمة للقوافل التي تجوب المنطقة ذهابًا وإيابًا، وبناءً على ذلك، لعبت دور الوسيط التجاري بين شمال أفريقيا وبلاد السودان الغربي. نتيجة للزخم والكثافة في المبادلات التجارية في شبه المنطقة، وتحولت وادان إلى ميناء صحراوي يعج بالحركة وينبض بالنشاط، حيث يتم فيه مقايضة السلع القادمة من البلدان الساحلية الصحراوية مثل الذهب والحبوب والعسل والرقيق، مقابل السلع الواردة من الشمال الإفريقي والمشرق العربي وأوروبا، مثل الملح والتمور والأواني المنزلية والأقمشة والنسيج والمعدات المصنعة والورق والكتب

 ونتيجةً لكثافة التبادل التجاري الذي كان يجري في وادان، ونتيجةً أيضًا للتمازج الاجتماعي والتواصل الثقافي المصاحب له، أصبحت المدينة مشهورة في بلدان الساحل والصحراء، وفي الشمال الإفريقي وأوروبا، حيث تم إدراج اسمها ضمن الأطلس الجغرافي الأوروبي

أدى الازدهار الكبير في تجارة الذهب والملح والرقيق والحبوب والأقمشة وغيرها في مدينة وادان ابتداءً من القرن الثالث عشر إلى ارتفاع مستوى الاهتمام بها وزيادة الإقبال عليها من مختلف جهات المنطقة. حيث اتجهت المحلات المسوفية، التي كانت جزءًا من جيوش يحيى ابن غانية النازحة من أحواز مراكش نتيجة لضغط الموحدين، نحو وادان. كانت هذه المحلات تضم مجموعة متنوعة من الهكاريين والأندلسيين المورسكيين والأتراك والعرب الهلاليين وغير الهلاليين، إضافة إلى مختلف قبائل صنهاجة، وخاصة قبيلتي انيرزك وابدوكل. وقد تم استقرار هؤلاء الوافدين في قبيلة ادولحاج بودان واندمجوا معها، حسبما ذكره ابن القوطية في كتابه “تاريخ الأندلس”

وفي هذا السياق، يجدر بالذكر أن منطقة وادان كانت مأهولة بخليط من قبائل ازوكاغن الوثنية التي قدمت من وادي درعة جنوب المغرب في القرن الخامس، وقبائل اغرمان المسيحية التي قدمت من غورما في ليبيا خلال القرن الأول الميلادي، بالإضافة إلى مجموعات من أصول صوننكية وقبائل البافور التي اعتنقت اليهودية وقدمت من منطقة الجريد الجزائرية في مطلع القرن الخامس الميلادي. ونجحت مسوفة في ترسيخ نفوذها على هذه المجموعات المتنوعة، وتمكنت أيضًا من السيطرة على تجارة الملح في المنطقة بفضل استخدامها للجمل.

ختاماً

نستطيع أن نقول من خلال ماسبق أنه في أعماق صحراء موريتانيا، تنسجم قصص حضاراتٍ قديمة، تروي لنا روح المدن القديمة التي تعكس جمالاً فريداً من نوعه. إنها ليست مجرد مواقع تاريخية، بل مدن تحمل في طياتها أسرار الزمن، وتحكي لنا حكاية البشر وعلاقتهم الوطيدة بالبيئة الشاسعة التي أطلقت لهم العنان ليصنعوا أمجاداً تاريخية

وتتميز المدن القديمة في هذا البلد الواقع بين غرب إفريقيا والمحيط الأطلسي بطابعها الثقافي الفريد، حيث تتداخل العناصر الفنية والهندسية ببراعة لتخلق مشهداً يعكس تطوراً حضارياً يرفرف كالرايات في سماء الصحراء. إن لكل حجر وزخرفة في هذه المدن قصة تحمل معها تراثاً يتجدد مع كل شروق للشمس وغروبها

وكما تتميز هذه المدن ببنيانها المتميز الفريد الذي يتحدى الزمن، حيث تشدو جدرانها بالحكايات والأسرار التي تمتد لعدة قرون. وإن الضيافة السحرية التي تتجلى في تصميمها العمراني تكشف للزائر عن عالمٍ آخر، حيث يتداخل التقليد والحداثة بسلاسة، كما يعكس الضياء الذهبي لأشعة الشمس على الرمال الذهبية جمالاً خلاباً

وتعكس لنا المدن القديمة في موريتانيا ليس فقط تاريخاً حافلاً بالإنجازات، بل تشكل أيضاً نموذجاً حياً للعيش المشترك بين الإنسان والطبيعة. إن حياة المدن القديمة في هذا الوطن الساحر تعكس جمال الروح الإنسانية وتصميمها على البقاء والازدهار في وسط التحديات والرمال اللاحصرية.

زر الذهاب إلى الأعلى