الحرب في السودان: تدمير التراث الثقافي والآثار التاريخية
لم تترك الحرب في السودان شيئًا إلا ودمرته، حيث فقد السودان الكثير، ولكن ما لا يمكن تعويضه هو تراثه الثقافي الثمين؛ من آثار ومتاحف وأرشيفات. جاءت الحرب لتسلب السودان جزءًا من ماضيه العريق، فماذا حدث لهذا التراث؟
بدأت ملامح التدمير في الخرطوم تحت القصف، حيث تم تدمير ما لا يقل عن 33 ألف بناية، مما يعني فقدان معالم تاريخية تعود للقرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والتي تمثل مراحل هامة في تاريخ العمارة السودانية. من بين هذه المعالم، تضررت بنايات جامعة الخرطوم، التي كانت تُعرف بكلية غوردون التي أسست عام 1904م، كما تعرض القصر الرئاسي القديم لأضرار جسيمة.
رصد عدد من الأثريين انتهاكات في مواقع ولايتي نهر النيل والشمالية، تضمنت السطو والبناء العشوائي والزراعة في مناطق تراثية، فضلاً عن تشويه المقابر الأثرية. تحولت بعض المواقع إلى ساحات اشتباك بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد أن تسللت الأخيرة إلى موقع النقعة والمصورات المسجلين ضمن التراث العالمي.
المتاحف
توجهت الأنظار إلى المتاحف في الخرطوم، التي تقع في قلب مناطق النزاع، وأبرزها المتحف القومي السوداني، الذي تأثر بشدة منذ بدء الحرب. تأسس المتحف عام 1971م على شاطئ النيل، وتعرض لأضرار جسيمة، خاصة في سقف الهيكل المعدني الموجود في الحديقة، والذي يضم معبد بوهين، الذي يعود تاريخه إلى 1200 عام قبل الميلاد، ومعبد أكشا. تحتوي بناية المتحف على 100 ألف قطعة، دُمّر بعضها وفُقد البعض الآخر، ولكن لا توجد لدينا إحصاءات دقيقة بشأن ذلك. كما تعرض معمل البحث في المتحف للتدمير.
ليس لدينا معلومات واضحة عن الأضرار التي لحقت بالمتحف الإثنوغرافي، الذي ظل مغلقًا لمدة 16 عامًا قبل إعادة افتتاحه في 2021. يحتوي هذا المتحف على مقتنيات تعكس تنوع وغنى التراث القبائلي، بما في ذلك الملابس وأدوات المطبخ والعملات. أما متحف التاريخ الطبيعي، الذي افتتح في عام 1958، فقد عانى أيضًا من أضرار كبيرة بسبب قربه من مقر القيادة العامة للجيش، حيث فقدت حيوانات نادرة وعينات من نباتات وصخور نادرة.
كما دُمّر متحف الآلات الموسيقية بالكامل، حيث اختفت أو نُهبت مقتنياته. وقد جمع ضيف الله الحاج أكثر من 150 آلة موسيقية على مدار 32 عامًا، ليؤسس المتحف في عام 1997، وانضم إلى المجلس الدولي للمتاحف في 2017. تعتبر خسارة هذا المتحف كارثة، نظرًا لندرة بعض مقتنياته.
تعرض متحف بيت الخليفة في أم درمان، الذي بُني في أواخر القرن التاسع عشر وتحول إلى متحف عام 1928، للتخريب وسرقة معظم محتوياته، بما في ذلك سُبحة عثمان بن دقنة وسيوف الأمير أبو قرجة. وكان المتحف قد شهد قبل الحرب عملية ترميم ممولة من صندوق الحماية الثقافي التابع للمجلس الثقافي البريطاني.
المواقع الأثرية: تدمير ونهب
رصد الأثريون انتهاكات في مواقع ولايتي نهر النيل والشمالية، شملت السطو والبناء العشوائي، حيث تحولت بعض المواقع إلى ساحات اشتباك بين الجيش والدعم السريع. تعتبر جزيرة مروي، التي تحتوي على آثار تعود للحقبة المروية، من أهم المواقع في السودان المسجلة ضمن التراث العالمي، وقد تعرضت للأضرار بسبب التصحر وتغطية الرمال لأهراماتها.
كما تمكن مجهولون من نبش أكثر من 50 مقبرة بجزيرة صاي، التي بدأت بعثة فرنسية في الكشف عن آثارها منذ 1904، مما يدل على العلاقات المصرية السودانية التاريخية.
حرب ضد الوثائق
تعرّضت دار الوثائق السودانية لأضرار جسيمة، مما يثير قلقًا كبيرًا بشأن مقتنياتها. تضم الدار 3 ملايين وثيقة موزعة على 200 مجموعة، بما في ذلك 80 ألف وثيقة تتعلق بسلطنات الفونج والفور وحقبة المهدي. كما تعرضت مكتبة محمد عمر بشير للدراسات السودانية للتدمير، حيث كانت تضم مخطوطات ووثائق نادرة.
جهود وآمال
تلقت هيئة متاحف قطر دعمًا منذ عام 2012 لمشاريع إنقاذ وترميم عدد من المواقع في السودان، حيث ضخت 135 مليون دولار في هذا الإطار. ومع تصاعد الجهود الدولية، أُطلقت مبادرة في متحف فيكتوريا وألبرت بلندن لحماية التراث السوداني.
من بين المحاولات المبتكرة للحفاظ على التراث السوداني، تأتي تجربة “متحف صون تراث السودان الحي”، وهو متحف افتراضي على الإنترنت بدعم من المجلس الثقافي البريطاني وبمشاركة خبراء سودانيين ودوليين، مما يعكس قوة الشراكات المحلية والدولية.